الخلق: متعلق قدر الله، عز وجل، وربوبيته، فما خلق الله، عز وجل، الكائنات إلا بقدره، وما قامت السماوات والأرض إلا بربوبيته.
والأمر: أمره، عز وجل، بشقيه:
الكوني: وبه خلق الخلق فهو مرادف لقدره الكوني الذي كون به الكائنات.
والشرعي: الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، وبه أنيط التكليف، ولأجله خلقت الجنة والنار، وانقسم الناس فيه إلى مؤمن وكافر، وبموافقته تكون النجاة، وبمخالفته يكون الهلاك، ولا ينفع العبد موافقته للأمر الكوني، إن لم يوافق الأمر الشرعي، بل إن موافقة الأمر الكوني صارت حجة لكثير من الفساق والعصاة، فهم يزعمون أن معصيتهم طاعة للأمر الكوني، فهم مستسلمون له، لا يملكون من أمر نفسهم شيئا!!!!، وطبقات متأخري الصوفية، لا متقدميهم من شيوخ الطائفة الفضلاء، طبقات متأخريهم تحمل كثيرا من انحرافات القوم بسبب هذا الخلط بين الأمرين: الكوني والشرعي، ويأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله.
وإنما أمرنا، معشر المسلمين، بموافقة الأمر الشرعي، فعلا وتركا، وموافقة الأمر الكوني، شكرا في السراء وصبرا في الضراء، لا احتجاجا به على الشرع، فصار أمرنا كله خير، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فالقدر إذن: متعلق ربوبية الله، عز وجل، لأن القدر من فعله، وفعله من ربوبيته جل وعلا، فهو خالق العباد وخالق إراداتهم وأفعالهم.
والشرع: متعلق ألوهيته، لأن الشرع: افعل ولا تفعل، والأمر والنهي من ألوهيته، جل وعلا، فهو الشارع، الآمر الناهي، فما أمر به وجب امتثاله، وما نهى عنه وجب اجتنابه.
وقد عقد أبو العباس، رحمه الله، لهذه الثنائية، الأصل الثاني من "تدمريته" بأكمله، تحت عنوان: الشرع والقدر.
وإلى قول أهل السنة والجماعة في مسألة المحبة والإرادة، أو: الأمر الشرعي والأمر الكوني، يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون: إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة".
"منهاج السنة"، (3/ 15).
وفي هذا الأصل يقع الخلل، إذا اعتقد العبد أن موافقة مشيئة الله الكونية، مطلقا دون النظر إلى المشيئة الشرعية، مشيئة: افعل ولا تفعل، إذا اعتقد أن موافقة الأولى دون الثانية هو من تمام الإيمان بالقدر، وهذا باب واسع تقحمه من تقحمه من الجبرية، الذين غلوا في إثبات القدر، حتى قال قائلهم:
ألقاه في اليم مكتوف اليدين ******* وقال إياك إياك أن تبتل بالماء.
وقال ابن سينا فيما ينقله عنه ابن القيم رحمه الله:
"العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله تعالى في القدر"!!!، ويعلق ابن القيم بقوله: "وهذا كلام منسلخ من الملل ومتابعة الرسل".
وأعرف الخلق الله به رسله وأنبياؤه، وهم أعظم الناس إنكارا للمنكر، وإنما أرسلوا لإنكار المنكر، فالعارف أعظم الناس إنكارا للمنكر لبصيرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه الإنكار، والقدر يعينه عليه وينفذه له، فيقوم في مقام: (إياك نعبد وإياك نستعين)، فإياك نعبد: امتثال للأمر الشرعي و إياك نستعين: متعلق الأمر الكوني فلا حول ولا قوة إلا بك ولا حصول للمراد إن لم تأذن بوقوعه كونا، وفي مقام: (فاعبده وتوكل عليه)، فاعبده: امتثال للأمر الشرعي و توكل عليه: متعلق الأمر الكوني فإن توكلنا على سواك خذلنا ولم يحصل مقصودنا.
فالقوم قد أهملوا الأسباب الشرعية، بل والعادية، حتى قال قائلهم: إن الله يفعل الإحراق عند النار لا بها، فسلبوا من الأسباب ما أودعه الله، عز وجل، فيها من قوى، وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، إذ الله، عز وجل، عندهم هو فاعل فعل العبد، فهم بين:
ناف لقدرة العبد مطلقا.
¥