تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أحدها: هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به: فيفنى عن عبادة غيره بعبادته وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله.

وأما الفناء الثاني: وهو الذي يذكره بعض الصوفية وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين وليس هو من لوازم طريق الله ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا مبينا وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك.

وأما الثالث: فهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود واحد بالعين فهو قول أهل الإلحاد والاتحاد الذين هم من أضل العباد"

فحاصل فنائهم:

إما حال ناقص، ليس من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرض مثله للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضوان الله عليهم، مع كونهم أولى الناس بسلوك هذا الطريق.

ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد أخطأ، فإن كان من فضلاء شيوخ الطريقة المعظمين للأمر والنهي، كشيخ الإسلام: أبي إسماعيل الهروي، رحمه الله، الذي حصل له نوع غلو في شهود الحقيقة الكونية، فقال في أبيات له:

ما وحد الواحد من واحد ******* إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته ******* عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ******* ونعت من ينعته لاحد

فذكر، كما يقول شارح الطحاوية رحمه الله: "لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة".

بتصرف من "العقيدة الطحاوية"، ص48.

ولا شك أن سيرة الرجل، تشهد له بالاستقامة، وإن وقع في نوع غلو في جانب الربوبية، كما تقدم، يؤكد ذلك أن من الأمور الفارقة بين السلف ومن سار على طريقتهم من جهة، والاتحادية من جهة أخرى، بل من أهمها: أن السلف يثبتون صفات الباري، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، فيستحيل مع ذلك أن يقولوا باتحاد ذاته بذوات خلقه، أو أن فعل الخلق هو عين فعل الخالق، فللرب، جل وعلا، ذات بائنة عن ذوات خلقه، فهو، عز وجل، في العلو المطلق، لا تحده جهة مخلوقة، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، بائن من خلقه غير حال فيهم، بينما الاتحادية، لما نفوا صفات الله، عز وجل، كحال الحلولية الأوائل من الجهمية، وجعلوا الله، عز وجل، هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، سهل عليهم، كما تقدم، القول بالاتحاد أو الحلول، وهما متقاربان، وإن امتاز الأول عن الثاني بأنه امتزاج كامل بين وجودين امتزجا كامتزاج اللبن بالماء، خلاف الحلول فهو: حلول ذات في ذات مع تمايز كل منهما عن الأخرى، والله أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير