ولما ظهر علي، رضي الله عنه، جاء إلى أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال: "غفر الله لك"، قالت: "ولك، ما أردت إلا الإصلاح"، وصدقت رضي الله عنها، فما خرجت إلا رجاء الإصلاح بين المؤمنين، ولم يكن في خروجها أي مخالفة شرعية، إذ خرجت برفقة محرمها: "عبد الله بن الزبير"، رضي الله عنهما، ابن اختها أسماء ذات النطاقين، رضي الله عنها، ولم تتبذل، أو تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وإنما سارت في هودجها، كالملكة المصونة لا يطلع عليها أحد من الجيش إلا من جاز له ذلك من محرم أو جارية ........... إلخ، وما كان القوم ليهتكوا ستر أمهم.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
(وأما الحديث الذي رواه، أي: صاحب منهاج الكرامة، وهو قوله لها: تقاتلين عليا وأنت ظالمة له، فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة بل هو كذب قطعا فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه كما كان يحلف فيقول والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتله أن يتفق على معهم على إمساك القتلة فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم فحملوا دفعا عن أنفسهم فظن على أنهم حملوا عليه فحمل دفعا عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم وعائشة رضي الله عنها راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار)
"منهاج السنة"، (4/ 316، 317).
وغالب الأحاديث التي استدل بها صاحب "منهاج الكرامة" للطعن في الصحابة، رضوان الله عليهم، إما: موضوعات يرويها بلا أسانيد أصلا، وإما أحاديث صحيحة هي مناقب جعلها مثالب في تحكم غريب، ومن شاء فليراجع رسالة "منهاج الكرامة".
الشاهد أن عليا، رضي الله عنه، أنزلها بعد ذلك، دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار في البصرة على سنية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها ورحبت به وبايعته وجلس عندها.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل منهما مئة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل، كما في الطبري (5/ 223)، ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا.
ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي رضي الله عنه فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: "يا بني لا يغتب بعضكم بعضا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه من الأخيار"، فقال علي رضي الله عنه: (صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة)، ثم سار معها مودعا أميالا وسرح بيته معها بقية ذلك اليوم.
وروى الإمام ابن حزم في بحث ((وجوه الفضل والمفاضلة)) من كتاب (الإمامة والمفاضلة) المدرج في الجزء الرابع من (الفصل) ص 134 عن شيخه أحمد بن محمد الخوزي عن أحمد بن الفضل الدينورة عن محمد بن جرير الطبري أن على بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة، فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد، فخطبهم عمار، وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم: ((إنى أقول لكم، ووالله إنى لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي زوجته في الدنيا، ولكن الله ابتلاكم بها لتطعيوها أو لتطيعوه))، فقال له مسروق (ابن الأجدع الهمداني) أو أبو الأسود (الدؤلى): ((يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له
¥