الشرط الخامس: دلالة الوصف على الكمال المطلق:
فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص، أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن، وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)، أي: البالغة الكمال المطلق في الحسن التي لا تحتمل أي معنى من معاني النقص.
وأما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة موضع احتمال، فكان كمالا في حال ونقصا في حال، فلا يصح إطلاقه على الله، عز وجل، أو حتى إطلاق الوصف دون تقييد، فلا يثبت بإطلاق ولا ينفى بإطلاق، بل لابد من البيان والتفصيل والتقيد بما ورد في التنزيل، كما في:
صفة المكر: في قوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ): فهي تحتمل الكمال إذا كان المكر بالكافرين، وتحتمل النقص إذا كان المكر بالمؤمنين، فيثبت لله، عز وجل، منها الأول دون الثاني، ولا يسمى الله، عز وجل، بـ: "الماكر"، ولا تطلق عليه صفة "المكر" بإطلاق، وإنما يقال: الله، عز وجل، متصف بالمكر بالكافرين، فيقتصر على موضع الكمال في الصفة دون موضع النقص.
وصفة التردد: في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته): فوصف التردد عند الإطلاق يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر، فلو كان التردد عن جهل وقلة علم وعدم إحكام للأمر كان التردد نقصا وعيبا، وإن كان التردد لإظهار الفضل والمحبة في مقابل إنفاذ الأمر وتحقيق الحكمة كان كمالا ولطفا وعظمة وهو المقصود في الحديث.
واسم الطبيب: لأن معناه عند التجرد ينقسم إلى كمال: وهو تدبير أسباب الشفاء، ونقص: وهو السحر والإمراض والبلاء، فهو من: "المتضادات" إذ يأتي بمعنى: الإمراض وضده من تدبير أسباب الشفاء.
فمن الأول: حديث أبي رمثة، رضي الله عنه، أنه قال: (فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب، قال صلى الله عليه وسلم: الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها).
فالاسم هنا: مقيد، خلاف ما قد يبدو للوهلة الأولى، وقرينة تقييده ما جاء في نفس سياق الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (طبيبها الذي خلقها).
ومن الثاني: حديث عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا: (سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ: مَطْبُوبٌ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟، قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَقُلْتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا ثُمَّ دُفِنَتْ الْبِئْرُ).
فالطبيب معناه عند التجرد منقسم إلى كمال ونقص، ولا يذكر في حق الله إلا مقيدا بموضع الكمال فقط، بخلاف "الشافي" فإن معناه مطلق في الكمال، ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: أما أنا فقد طببني الله، ولكنه قال: أما أنا فقد شفاني الله، فأتى باللفظ الذي لا يقبل الاحتمال، وإنما هو نص في إثبات الكمال المطلق للباري، عز وجل، في هذا السياق.
وقد جعله المناوي، رحمه الله، من باب المشاكلة اللفظية، إذ قال الرجل: أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الله الطبيب.
فالمشاكلة حاصلة بين: "طبيب" و "الطبيب"، والمشاكلة هنا قد تكون سائغة إذا لم يتوصل بها إلى نفي صفات الباري، عز وجل، كما فعل المعتزلة ومن نحا نحوهم من المتكلمين في آيات كـ:
قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، فنفوا صفة النفس لله، عز وجل، وقالوا: "نفسي" و "نفسك": مشاكلة، أو جناس.
وقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، فنفوا صفة خداع الله، عز وجل، للمنافقين، وقالوا: "يخادعون" و "خادعهم": مشاكلة، أو جناس.
وقوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، فنفوا صفة مكر الله، عز وجل، بالكافرين، وقالوا: "يمكرون" و "يمكر": مشاكلة، أو جناس.
وهكذا القول في وصف: الصحبة والخلافة التي تضمنها الاسم المقيد عند مسلم من حديث ابن عمر، رضي الله عنه، مرفوعا: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل).
لأن الصحبة عند التجرد عن الإضافة تكون في الخير والشر، كما قال تعالى عن التي في الخير: (ما ضل صاحبكم وما غوى)، وقال عن صحبة الشر: (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر).
والخلافة، أيضا، عند التجرد عن الإضافة تعني: النيابة عن الغير، وتكون عن:
نقص الأوصاف بحكم طبيعة الإنسان، كما يستخلف الملك من ينوب عنه في تدبير شئون مملكته إذا غاب أو مرض، كما استخلف موسى هارون في قومه لما غاب عنهم، في قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
أو عن كمال الأوصاف، إذا كان ذلك لتشريف الإنسان وإكرامه أو اختباره وامتحانه، وليس لعجز المستخلف عن القيام بشؤونه.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله بقواعد هامة في باب الصفات.
¥