وطريقة الرسل هي: الإثبات المفصل، والنفي المجمل، فالكمالات تفصل، لأن في ذلك مزيد مدح وثناء على الله، عز وجل، ونفي النقص يجمل، لأن في تفصيله إشعارا بالتنقص من الممدوح، فقولك لملك أو أمير: أنت لا نظير لك في كرمك، هكذا بإجمال، ثناء حسن، خلاف قولك: أنت لست ببخيل ولا شحيح ولا جبان ولا ......... إلخ، فهو مشعر بالانتقاص وموجب للتعزير، ولله المثل الأعلى.
ودليل هذه الطريقة من الكتاب:
قوله تعالى: (ليس كمثله شيء): نفي مجمل، (وهو السميع البصير): إثبات مفصل، فضلا عن كون معظم آيات هذا الباب: تفصل كمالات الله، عز وجل، المطلقة، ولم يرد النفي إلا مجملا أو مفصلا في بعض المواضع لأغراض بعينها كـ: نفي شبهة، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)، إذ فيها رد على اليهود، قاتلهم الله، لما قالوا بأن الله، عز وجل، خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في السابع!!!!!.
والنفي عند السلف ليس نفيا محضا، وإنما هو متضمن لإثبات كمال الضد، خلاف نفي المتكلمين المجرد، فقوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، متضمن لإثبات كمال حياة الله، عز وجل، وقيوميته.
وأما طريقة الزائغين فهي:
نفي مفصل وإثبات مجمل، على العكس من طريقة الرسل، فيقولون، كما قالت المعتزلة: ليس بكذا، وليس بكذا ..................... إلخ، فإذا ما أتوا لباب الإثبات أجملوه إجمالا.
محذورات هذه القاعدة:
حمل نصوص الوحي على وحشي الألفاظ، وأوجه المعاني البعيدة التي لا يحتملها اللفظ إلا بتكلف، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام، رحمه الله، في "الحموية" بقوله:
"ومنهم، أي: المتكلمون، من يقول: بل توقفوا فيه، أي: في باب الصفات، - وما نفاه قياس عقولكم - الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافا أكثر من جميع من على وجه الأرض - فانفوه وإليه عند التنازع فارجعوا. فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم - على طريقة أكثرهم - فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام. أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين". اهـ
فاليد في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، لا تحتمل معنى القدرة، لأن تثنية القدرة فاسدة من جهة اللفظ والمعنى، فالمصادر لا تثنى، وإثبات قدرتين لله، جل وعلا، أمر في غاية الفساد من جهة المعنى، فضلا عن أن الله، عز وجل، قد أضاف فعل الخلق لنفسه، ثم دخلت الباء على اليدين اللتين هما للفعل، فدل ذلك على أن الفعل باليدين، خلاف قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)، فالفعل مضاف للأيدي التي وردت بصيغة الجمع فتحمل على التعظيم، ولا يقال هنا بأن الأنعام قد خلقت بيدي الله، عز وجل، كآدم عليه السلام، وإنما هذه الآية من قبيل قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، أي: بما كسبتم، فكذا: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا): أي: مما عملنا، وجاءت صيغة الجمع للتعظيم، كما تقدم، خلاف صيغة التثنية التي هي نص في العدد، لا يمكن حمله على القدرة أو القوة أو النعمة .............. إلخ لفساد المعنى عندئذ.
يقول الحافظ البيهقي، رحمه الله، في "الاعتقاد":
"وفي ذلك منع من حملها على النعمة والقدرة، لأنه ليس لتخصيص التثنية في نعم الله ولا في قدرته معنى يصح، لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ولأنه خرج مخرج التخصيص، وتفضيل آدم، عليه السلام، على إبليس، وحملها على القدرة أو على النعمة يزيل معنى التفضيل لاشتراكهما فيها".
ولذا فإن التحريف بالتأويل أقبح من التعطيل والتكييف والتمثيل، لأن المؤول ما حرف إلا لأنه عطل، وما عطل إلا لأنه كيف ومثل، فجمع أنواع الضلال في هذا الباب بتأويله الباطل.
ومما يتعلق بهذه القاعدة:
¥