وهذا الاسم من الأسماء الدالة على ربوبية الله، عز وجل، دلالة تضمن، لأنه يدل بالتضمن على صفة: "الملك"، فالله، عز وجل، متصف بأنه "الملك"، ملكا عاما مطلقا، فلا شيء في الكون يخرج عن سلطانه الكوني، وهذا مقتضى ربوبيته، وإن خرج بعض عباده عن سلطانه الشرعي، فلا يقدح ذلك في ربوبيته، لأنهم إنما قصروا في توحيد الألوهية: توحيد القصد والطلب المتعلق بأفعالهم، لا توحيد الربوبية: المتعلق بأفعال الله، عز وجل، فلا راد لقضائه الكوني، ولا مبدل لكلماته الكونيات، وكل العباد، شاءوا أم أبوا، تحت قهر سلطان ربوبيته، فهم عبيده، وإن لم يخضعوا لأمره الشرعي، فعبادة المنقاد للأمر والنهي: عبادة العابد، وعبادة غير المنقاد: عبادة المذلل المسخر شاء أم أبى، وإنما حرم شرف العبودية الخاصة، وإن لم يخرج من دائرة العبودية العامة التي تشمل جميع الخلائق.
ومع كونه "الملك"، جل وعلا، فهو: "المالك"، فملوك الدنيا قد يكون أحدهم مالكا لرقبة الشيء، ولكنه لا يملك التصرف فيها، فالأمر موكول لوزير أو وكيل بيده السلطان الحقيقي، وقد يكون ملكا متصرفا غير مالك، كالوزير والوكيل المفوض، وقد يجتمع له الوصفان، ولكن ملكه قاصر من جهة:
أنه ملك محدود، لا يتجاوز ما في يده إلى ما في يد غيره.
وأنه قد ينازعه، بل قد يغلب عليه، فينتزع ملك أقوى منه ما تحت يده، كما هو حال كثير من ملوك الدنيا الذين زالت ممالكهم بأيدي غيرهم.
وأنه، وإن صفا له حينا من الدهر، إلا أنه إلى زوال لا محالة.
وأن ملكه غير مطلق، فهو مقيد بـ:
القيد الشرعي: إن كان معظما لأمر الشارع، عز وجل، فلا يرفع ولا يضع إلا بإذنه.
والقيد الكوني: إن أبى الانقياد للأمر الشرعي، فهو معبد مذلل رغما عنه كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك، وكان اسم "الملك" دالا على الربوبية دلالة تضمن، فهو دال على مطلب الألوهية: العلة الغائية من خلق العباد، دلالة التزام، فيلزم من أقر بملك الله، عز وجل، أن يخضع لأمره الشرعي، لأنه لا مستحق للعبادة إلا من خلق وصور وبرأ وأحيى وأمات ورزق، وكثير من آي القرآن تدل على هذا التلازم بين نوعي التوحيد: الربوبية والألوهية، كما في:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فـ: "الخلق": من معاني الربوبية، ولازمه: "التقوى"، فهو دال عليها دلالة العلة على معلولها.
وقوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، فـ: "الخلق": من معاني الربوبية، ولازمه: "العبادة"، فهو دال عليها دلالة العلة على معلولها، أيضا.
وقوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، فلازم "الربوبية": العبادة التي هي مقتضى الألوهية، وهو، عز وجل، مستحق لها لأنه لا مثل له ولا شبيه، فهذه الآية قد حوت أنواع التوحيد الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وهذا باب جليل لمن تأمله وتتبع آياته في الكتاب المنزل.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ـ[أبو طارق]ــــــــ[13 - 09 - 2007, 10:02 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرًا أستاذنا الفاضل
لم أستطع في هذه الزيارة قراءة ما تفضلتم به , ولعلي أجد فرصة للعودة والاستفادة من طرحكم النافع الماتع إن شاء الله
ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 09 - 2007, 12:34 ص]ـ
وجزاك خيرا أبا طارق ونفعك ونفع بك أيها الكريم.
وعودة لأصل الموضوع ومع:
4_ القدوس:
فالتقديس في اللغة: التطهير، ومنه قولك: قدس فلان ربه، أي: نزهه عن كل دنس، وقول الداعي: قدس الله روح فلان، أي: طهرها من أدرانها، فهو خبر بمعنى الإنشاء، أي: اللهم قدس روحه، ومنه: روح القدس: جبريل عليه السلام، وفي التنزيل: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، يقول أبو السعود رحمه الله:
¥