تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهنا لابد من الإشارة إلى بطلان استدلال طائفة: "الجبرية" بهذا الاسم الكريم على صحة مذهبهم في كون الإنسان مجبورا في كل أفعاله: الاختيارية وغير الاختيارية، وعليه فإن الإنسان لا يؤاخذ عندهم بأفعاله، لأنه إنما جبر عليها جبرا، فلا إرادة له في اختيار أفعاله، فهو كما يقال: ريشة في مهب الريح!!!!!، فأراد القوم وصف الله، عز وجل، بالقوة والقهر، فغلوا حتى نسبوا إليه، عز وجل، الظلم، إذ كيف يؤاخذ المكلف على ما أكره عليه، فوقع منه بلا اختيار؟!!!!!

ومفتاح باب القدر: التمييز بين الإرادتين: الكونية والشرعية.

فإنه يصح أن يقال بأن الله، عز وجل، قد شاء وقوع الكفر والمعاصي، بإطلاق المشيئة، لأنها لا تكون إلا كونية متعلقة بأمره الكوني الذي يشمل كل أفعال المكلفين: الاختيارية وغير الاختيارية من: إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، أو يقال: قد أرادها كونا، بتقييد الإرادة بكونها: كونية، لأن الإرادة منها ما هو شرعي، وهو مقتضى: الأمر والنهي الشرعيين: افعل ولا تفعل، مناط الابتلاء والتمحيص في هذه الدار، فلا يقال بأن الله، عز وجل، قد رضي بالكفر والمعاصي لمجرد أنه أذن في وقوعها كونا، كما يدعي الإباحية من الجبرية، الذين يحتجون بالقدر الكوني على المعصية، ولا ينظرون بعين الاعتبار إلى القدر الشرعي الذي كلف به العبد.

وعليه فإن اسم الله، عز وجل، الجبار في هذا الموضع يتعلق بسنن الله، عز وجل، الكونية، التي لا تحويل فيها ولا تبديل، فهي تجري على كل الخلائق، مؤمنهم وكافرهم، كالحركات اللاإرادية في الإنسان كحركة القلب وسريان الروح في البدن، والمرض، والموت، فهذه لا يؤاخذ العبد عليها، لأنه لم يكلف بها لتعلقها بالأمر القدري الكوني، والتكليف إنما يقع بالأمر القدري الشرعي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ومقابل أولئك: قال القدرية نفاة القدر: لا قدر والأمر أنف، ويجوز للمكلف أن يعمل أعمالا لا يريدها الله، عز وجل، فأرادوا تنزيه الله، عز وجل، عن الظلم، فغلوا، حتى نسبوا إليه: العجز، فالحوادث تقع في كونه، وإن لم يردها!!!!، والصحيح أنه قد تقع أعمال لا يريدها الله، عز وجل، شرعا، لمخالفتها مقتضى الأمر والنهي، وهذا لا يقدح في كمال إرادته، عز وجل، أما أن يقال بأن من الأعمال ما يقع خلاف إرادة الله الكونية التي لا تخرج عنها ذرة من ذرات هذا الكون، فهذا عين القدح في إرادة الله، عز وجل، فآل الأمر، مرة أخرى، إلى وجوب معرفة الفارق بين الإرادتين: الكونية والشرعية، ومتعلق كل منهما، وتقدم أن سبب الضلال في هذا الباب هو: الخلط بينهما.

وأما أهل السنة والجماعة، أصحاب المذهب الوسط، فهم، كعادتهم، وسط بين الغلو والجفاء، فقد أثبتوا للمكلف إرادة يقع بها فعله اختيارا، ولكنها إرادة مخلوقة لله، عز وجل، فهو خالقها وخالق الفعل الذي يقع بها وخالق الفاعل، فلا تخرج إرادة العبد عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية، وإن خرجت عن إرادته الشرعية إن خالف المكلف الأمر والنهي، فترك المأمور أو ارتكب المحظور، فالله، عز وجل، خالق، والعبد: فاعل حقيقة، بإرادة حقيقية مؤثرة في الفعل تأثير السبب في المسبب، هي مناط الثواب والعقاب، ولا يتصور ذلك إلا من الرب، جل وعلا، الذي وصف نفسه بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فليس كمثله شيء قي ذاته وصفاته وأفعاله، والقدر من أفعاله، وهو سر من أسراره، لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فلا جدوى من الخوض فيه، بقياس أفعال الله، عز وجل، على أفعالنا، إذ يستحيل في حقنا، نحن البشر، أن يقدر أحدنا على الآخر فعلا، ومن ثم يفعله المأمور مختارا غير مكره بحيث تصح مكافأته عليه إن كان صوابا، و مؤاخذته عليه إن كان خطأ، ولكن في حق الله، عز وجل، لا يصح، كما تقدم، أن يقاس فعله على فعلنا، وهو، جل وعلا، لن يظلمنا، لأنه غني عنا، لا حاجة له فيما أيدينا، فالواجب على العبد أن يشغل نفسه بما كلف به من أوامر ونواه ولا يتكلف البحث في لم يؤمر بالبحث فيه، فلا مطمع في إدراك سر القدر بعقول البشر القاصرة، تماما كما أنه لا مطمع في إدراك كيفية ذات الله، عز وجل، بنفس العقول القاصرة،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير