تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النقل والعقل قد دلا على إثبات صفة الحياة للباري، عز وجل، فهي صفة ذاتية معنوية، كما تقدم، لم يخالف فيها حتى المعتزلة والمتكلمون.

والحياة صفة كمال مطلق، فإذا ثبت اتصاف المخلوق بها، فالباري، عز وجل، أولى بالاتصاف بها، لأنه أولى بكل كمال مطلق، وقياس الأولى، كما تقدم مرارا، سائغ، بل لازم في هذا الباب، لإثبات كمالات الرب، عز وجل، شريطة أن يكون بعد ثبوت الصفة بالنقل الصحيح، فهو تبع لا أصل، لأن الباب، كما تقدم مرارا: غيبي محض.

والله، عز وجل، هو خالق هذا الكمال في الأحياء، فهو خالق كل حياة، أفلا يكون خالق هذا الكمال أولى به؟!

وهذه النقاط الثلاثة مطردة، كما تقدم، في إثبات صفات ربنا تبارك وتعالى.

الشاهد أنه بالتفريق بين الحياتين: حياة الخالق، تبارك وتعالى، وحياة المخلوق، تتضح أهمية وجود رب مدبر لهذا الكون، له حياة كاملة، لم تسبق بعدم، ولا يلحقها فناء، ولا يتخللها نقص، غير مفتقرة إلى أسباب، بل هي، أصل كل حياة، فغيرها مفتقر إليها من جهة التدبير الكوني والشرعي بتيسير أسباب الحياة الجسدية والروحية، فالطعام والشراب لحياة الأبدان، والوحي لحياة الأرواح، في ثنائية بديعة فيها من التوازن والوسطية ما عجزت مناهج البشر، أو حتى الشرائع السماوية السابقة عن تحقيقه، فالحمد لله، الحي القيوم، أن من علينا بأسباب حياة الأبدان والأرواح: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فهو روح لهذا العالم الحيران الذي تاه قلبه في بيداء الشبهات، وجسده في بيداء الشهوات.ومرة أخرى: كيف ينتظم أمر هذا العالم بتدبير إله يموت، ما الفرق بينه وبين غيره من المخلوقات إن كان الموت يلحقه كما يلحقها، وقد علم أن الرب، لا بد أن يباين المربوب، فيكون متصفا بما يغنيه عما سواه، ويجعل ما سواه مفتقرا إليه، والحياة أصل كل غنى، ولا يتصور غنى من افتقر إلى أسباب الحياة، فإذا ما ضيق عليه فيها لقيه من العنت ما لقيه، فكيف إذا أزهق خلق من خلقه روحه على خشبة الصلب، فقطع عنه أسباب الحياة بالكلية؟!!!!

ولهذا كانت كل الأسماء الحسنى دالة على اسم "الحي" بدلالة اللزوم، لأن كل صفات الكمال التي تتضمنها لا يتصور قيامها إلا بحي، وهذا أمر تدركه العقول حتى قبل ورود السمع، ولذا كانت هذه الصفة، حتى على طريقة المتكلمين، هي أصل الصفات الثبوتية، فكيف تثبت صفة مدح أصلا، لمن لم يتصف بالحياة؟!!!، وهل يوصف الميت بالعلم والقدرة والقوة ......... إلخ من الصفات الثبوتية.

والعجب يزداد إذا نظرنا لمن عبد حجرا مفتقرا للحياة، أو قبرا لا يملك صاحبه لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا، إن كان له صاحب أصلا، أو حيوانا بهيما ليس له من الحياة إلا حياة البدن، كحال عباد البقر، أشهر عباد الحيوان في العصر الحاضر، فكل من عبد سوى الله، عز وجل، فقد عبد مخلوقا لا حياة له أصلا، أو له حياة ناقصة، لا تصلح لتدبير شأن صاحبها فضلا عن غيره، على تفاوت في نقصانها.

ولذا كان إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، إمام الموحدين، مؤيدا لما استدل بعجز معبود أبيه آزر على بطلان إلهيته، فقال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، فمن لا يسمع ولا يبصر، لا تقوم به حياة، لأنها أصل السمع والبصر، فكيف يعبد الإنسان مخلوقا أنقص منه؟!!!.

وكان مؤيدا لما ناظر عباد الكواكب من الصابئة، فألزمهم بطلان آلهتهم لأنها آلهة آفلة، تظهر وتغيب، تشرق وتغرب، وهذا نقص من جهة أن تمام الألوهية فرع على تمام الربوبية، والرب، كما تقدم مرارا، لابد أن تكون حياته كاملة، لا تعتريها غفلة، ليقوم على تدبير شؤون عباده، فلا يتصور رب يغيب عن مربوبه، ولو لحظة، إذ العبد مفتقر إليه في كل لحظة، في حركاته الاختيارية وغير الاختيارية، فإن كان مؤمنا فهو مفتقر إليه من جهة: التدبير الشرعي والتدبير الكوني، وإن كان كافرا فلن يستغني عن تدبيره الكوني، مهما كابر وادعى، فقلبه الذي ينبض لا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير