فوقع في الذنب مرة أخرى، فتاب توبة نصوحا فغلبته نفسه مرة أخرى ................ إلخ فهو في جهاد مستمر مع نفسه، فتارة يغلبها وتارة تغلبه.
وجذر الاسم اللغوي: تاب يتوب توبا وتوبة، والتوبة هي: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وترك الذنب على أجمل الوجوه، فهي أبلغ وجوه الاعتذار، فإن للاعتذار ثلاث مراتب:
أولها: إنكار وقوع الذنب، فيقول المذنب: لم أفعل.
وثانيها: الإقرار به مع التعلل بأي حجة سواء أكانت قوية أم متهافتة، فيقول المذنب: فعلت كذا لأجل كذا وكذا.
وثالثها: وهو أعلاها وأكملها أن يقول: فعلت وأسأت ولا حجة لي، وقد أقلعت نادما.
وللتوبة ثلاثة شروط ذكرها العلماء:
الإقلاع فورا عن الذنب.
والندم على ما فات، وهذا شرط يغفل عنه كثير من الناس، كما أشار إلى ذلك أحد الدعاة المعاصرين، فكثير من العصاة يقلع عن ذنب بعينه، لا لأنه ندم واستغفر، وإنما لأنه تجاوز مرحلة عمرية كان اقتراف هذا الذنب فيها أمرا غير مستهجن في مجتمعاتنا التي غلب عليها الترف، فنقله الشيطان إلى ذنب جديد مناسب للمرحلة العمرية التي هو فيها الآن، فلكل مرحلة ذنوبها، فهو يقلع خجلا من نظرة المجتمع، لا خجلا من نظر الباري، عز وجل، إليه، وهو يقترف المعصية.
والعزم على عدم العودة: فلا يكون الندم آنيا، مع تبييت نية الرجوع إلى الذنب متى استطاع إلى ذلك سبيلا، فتكون التوبة رد فعل لحالة الوحشة والندم التي تعقب ارتكاب المعصية، ومن ثم تشتاق النفس إلى اللذة الموهومة التي يجدها العاصي حال مباشرة الذنب.
وإن كان الذنب متعلقا بحقوق العباد فلابد من رد المظالم إلى أهلها، أو طلب العفو والصفح منهم ما لم تترتب على ذلك مفسدة، وإلا أكثر من الدعاء لهم والثناء عليهم وإخراج الصدقات بأعيانهم أو أوصافهم إن جهل أعيانهم، لاسيما إن كانت المظالم أموالا اختلسها أو اغتصبها ولا يستطيع ردها إلى أصحابها لجهله بأعيانهم أو تعذر الوصول إليهم.
وتوبة العبد واقعة بين توبتين من الله، عز وجل، فهي:
مسبوقة بتوبة الرب، جل وعلا، عليه وفي التنزيل: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فلولا أنه أذن بتوبتهم ابتداء، ما وفقوا إليها انتهاء، فإذنه الكوني سابق لامتثالهم الأمر الشرعي بالتوبة، فكل الحركات والسكنات إنما تقع بكلماته الكونيات، وقد قرن الله، عز وجل، بين اسميه: التواب والرحيم في نهاية الآية لأن من لوازم رحمته بعباده أن يوفق عاصيهم إلى توبة تجب ما قبلها.
ومتبوعة بتوبة منه، جل وعلا، إذ يقبل هذه التوبة، ومجرد قبوله لها كرم بالغ، إذ هو الغني عمن سواه، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وفي التنزيل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) و: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وفي الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي)، فكيف وهو مع قبولها يفرح بتوبة العبد، فرح: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)، بل ويكرم صاحب التوبة فيبدل سيئاته حسنات: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وهذا من معاني اسمه: "الودود"، فهو لا يعفو فقط، إذ العفو لا يلزم منه المودة وصفاء النفس، فقد يعفو الإنسان عمن أساء في حقه، ولا تصفو نفسه له، ولكن الله، عز وجل، لكمال غناه عن خلقه: يعفو ويغفر ويصفح بل ويفرح بتوبة التائب فيكرمه بتبديل سيئاته حسنات، فأي ود وفضل وكرم بعد هذا؟!!!
فالله، عز وجل، يتوب أولا: إذنا وتوفيقا وإلهاما، فيتوب العبد، فيتوب الله، عز وجل، ثانيا: قبولا وإثابة.
والتواب: اسم يدل على صفة التوبة، وهي صفة فعل تتعلق بمشيئة الله، عز وجل، فمتى شاء الله، عز وجل، توبة عبده كونا، فإنه يلهمه إياها شرعا، ثم يتقبلها منه بمنه وكرمه.
والله أعلى وأعلم
يتبع إن شاء الله
¥