أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الوجه اللائق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تحريف، سموه: "تأويلا" ليروج على المخاطَب.
فصار التوحيد عندهم نفيا بلا إثبات، فنفيهم مفصل: ليس بكذا ولا بكذا .............. إلخ، لا يتضمن إثباتا، وإنما هو نفي محض، مقصود لغيره، وإثباتهم مجمل، مع أن الأصل فيه التفصيل، لأن فيه مزيد بيان لصفات الكمال الثابتة لله، عز وجل، فهو مقصود لذاته، فعكس القوم المسألة وجعلوا المقصود لغيره أصلا في الباب، وجعلوا المقصود لذاته فرعا، فخالفوا طريقة المرسلين في أشرف أبواب العلم.
ولفظ التركيب كغيره من الألفاظ الحادثة التي تكلم بها من تكلم ممن خاض في هذا الباب على طريقة المتكلمين، فهو: مجمل يفتقر إلى بيان، فلا يقبل بإطلاق، ولا يرد بإطلاق إلا بعد البيان، فإن قصد بنفيه: نفي افتقار الله، عز وجل، للأعضاء والأجزاء، كما يفتقر إليها البشر وبقية جنس الحيوان، مع إثبات الصفات الخبرية الذاتية كالعين واليد ............. إلخ على الوجه اللائق بجلال الله، عز وجل، فهذا حق، وإن قصد بنفيه: نفي اتصاف الله، عز وجل، بهذه الصفات، للشبه التي تقدم بسط الكلام فيها، فهذا باطل لأن فيه ردا للنصوص الصحيحة الصريحة في هذا الباب بحجة أنها توهم التشبيه، وأي إساءة أعظم من توهم المعاني الباطلة في نصوص الوحي المنزل بنوعيه: القرآن والسنة.
وعن هذه الألفاظ الحادثة يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
(الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه} وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} فليس لأحد يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على معاني عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول "الأحد" هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا).
"بيان تلبيس الجهمية"، (3/ 34).
وثمة شبهة أخرى حملتهم على نفي تعدد صفات الباري، عز وجل، وهي تأثرهم بالعقيدة النصرانية في مسألة: تعدد القدماء، فجعلوا الصفات بمنزلة أقانيم النصارى، فإثباتها عندهم يعني: تعدد القدماء، مع أنها لا توجد قائمة بنفسها أبدا، إذ لا قيام لصفة إلا بموصوف، وتعدد الصفات لموصوف واحد، مع كونه واحدا في ذاته، أمر غير ممتنع، فقد يوصف فلان من الناس بأنه كذا وكذا، كما أثر عن الحسن بن علي خادم عبد الله بن المبارك، رحمه الله، أنه اجتمع يوما بأصحابه ليعدوا خصال عبد الله من الخير، فهل قال أحد إن تعدد خصال ابن المبارك، رحمه الله، يلزم منه تعدد ذات عبد الله، أو أن: علم عبد الله ذات، وبذله ذات، وفقهه ذات، وفصاحته ذات، وجهاده ذات ...................... إلخ؟!!!!، أم أنها كلها صفات لموصوف واحد، ولله المثل العلى، بينما أقانيم النصارى: ذوات مستقلة، قائمة بنفسها: فالمسيح صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات مستقلة، ومريم عليها السلام ذات مستقلة، والروح القدس، عليه السلام، ذات مستقلة، فقياس هذا على هذا: قياس مع الفارق.
وصفة الأحدية: صفة ذات أزلية ثابتة لله، عز وجل، فلا تنفك عن ذاته، فهو الأحد أزلا وأبدا.
ومع:
51_ الصمد:
فالصمد في اللغة: صفة مشبهة للموصوف بالصمدية، من: صمد يصمد صمْدا، وهو يأتي على عدة معان منها:
السيد المطاع الذي لا يقضى أمر دون الرجوع إليه، وهو قول طائفة من السلف وأكثر الخلف وجمهور اللغويين.
و: الذي لا جوف له، لأن الجوف مظنة الضعف، فمن له جوف مفتقر إلى ما يملؤه، فيكون مفتقرا إلى الطعام والشراب، ومن كان له جوف فلابد له من مدخل ومخرج، مدخل للغذاء ومخرج للفضلات، وكل هذا مما يتنزه عنه الباري عز وجل.
و: الذي انتهى سؤدده وكمل في أنواع الشرف والسؤدد.
و: الباقي بعد خلقه، فالصمود يلزم منه البقاء بعد سقوط الغير وفنائه، وفي عالم البشر يقال: انهار الكل ما عدا فلانا فإنه صمد فلم يزلزله الخطب وإن كان جللا، ولله المثل الأعلى.
و: قيل: يفسره ما بعده: (لم يلد ولم يولد)، فيكون من المجمل المفتقر إلى البيان، وبيانه متصل به، وأولى ما فسر به القرآن: القرآن، والآية تشير إلى المعنى الثاني، لأن الولادة لا تكون إلا من أجوف، والله، عز وجل، منزه عن الجوف، لما فيه من الافتقار إلى ما يملؤه على التفصيل المتقدم.
ومن معانيه أيضا: السيد المقصود لقضاء الحاجات، فالصمْد هو: القصد.
وكل هذه المعاني، مع تفاوتها قوة وضعفا، صحيحة، فلا مانع من الجمع بينها، فكلها مما يصح وصف الله، عز وجل، أو الإخبار عنه بها.
والصمدية من: صفات الذات التي لا تنفك عن ذات الله، عز وجل، القدسية، فهو الصمد أزلا وأبدا.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
¥