ـ[مهاجر]ــــــــ[06 - 11 - 2007, 04:56 م]ـ
ومع:
52_ القريب:
فالقريب في اللغة: فعيل بمعنى فاعل، فهو صيغة مبالغة تدل على صفة القرب، وهو في اللغة: نقيض البعد.
والقرب في اللغة على أنواع فمنه:
قرب المكان، ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)
و: قرب الزمان، ومنه قوله تعالى: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)
و: قرب النسب، ومنه قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)
و: قرب الحظوة والمنزلة، ومنه قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)
فهده معان متعددة يجمعها معنى كلي مشترك هو: الدنو وعدم البعد، وهو يختلف باختلاف موارده، فالسياق هو الذي يرجح معنى على آخر، فإن دل على مكان، صار القرب هنا: نصا في قرب المكان، وإن دل على زمان صار: نصا في قرب الزمان، فسياق النص يرفع الظاهر المحتمل إلى مرتبة النص القطعي غير المحتمل، وهذا ما يعرف بـ: "الظاهر المركب"، لأن دلالته مركبة من: مادة اللفظ، والسياق الذي ورد فيه.
والله، عز وجل، يقرب من عباده كما شاء، كيف شاء، وهو مع قربه: علي على خلقه، مستو على عرشه، فلا تختلط ذاته القدسية بذوات خلقه، وإلى هذا المعنى أشار صاحب سلم الوصول، رحمه الله، بقوله:
وذكره للقرب والمعية ******* لم ينف للعلو والفوقية
فإنه العلي في دنوه ******* وهو القريب جل في علوه
وأما النصوص التي استدل بها من نفى علو الله، عز وجل، فزعم أنها تثبت قربه ومعيته على وجه يقتضي الحلول أو الاتحاد أو اختلاط ذاته بذوات خلقه، فليس فيها حجة لهم، بل السياق يدل على نقيض ما ذهبوا إليه، فالقرب إما أن يفسر بأنه:
قرب حقيقي لا يقتضي حلولا أو اتحادا، لأن الله، عز وجل، محيط بخلقه، فالسماوات السبع والأرضون السبع في يد الله، عز وجل، كخردلة في يد أحدنا، فالخردلة، مع دقتها، يصح أن يوصف من هي في يده بأنه قريب منها باعتبار إحاطته بها، ولا يلزم من ذلك أن ذاته قد اتحدت أو حلت فيها، تماما كمن أمسك زجاجة ماء شفافة، فإنه يصح أن يقال بأنه محيط بها، عالم بما تحويه، قريب منها، ولا يلزم من ذلك حلول أو اتحاد على التفصيل السابق، ولله المثل الأعلى.
وإما أن يقال، وهو الأرجح، إن سياق النصوص هو الذي يوضح معانيها، ففي:
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ):
القرينة السمعية المستفادة من نفس السياق: (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) تدل على أن القرب هنا: بمعنى العلم، فهو عالم بما توسوس به النفوس، تماما كما يقال عن فلان بأنه قريب من فلان لأنه يعلم جميع أسراره، ولله المثل الأعلى، والآية التي تليها تبين أن القرب هنا إنما يكون بواسطة الملكين اللذين يكتبان كل قول يتلفظ به العبد، فصار السياق هنا بمنزلة القرينة السمعية الصحيحة التي ترجح هذا التفسير، وإن قيل بأنه تأويل، فهو تأويل صحيح، لأنه اعتمد على قرينة سمعية في باب غيبي محض، خلاف تأويلات المتكلمين التي تعتمد على قرائن عقلية أحدثها القوم فرارا من لوازم باطلة أوقعهم فيها: إعراضهم عن تدبر ألفاظ النصوص ومعرفة السياق التي وردت فيه، فضلا عن لوازم قياس الخالق على المخلوق قياس تمثيل أو شمول وكلاهما فاسد لا يعول عليه في هذا الباب، فكان تأويلهم رد فعل لنتائج فاسدة سلموا بها، فوقعوا في شَرَك التشبيه ابتداء، فأداهم إلى التعطيل انتهاء.
¥