تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والقرينة العقلية لا تصلح في مثل هذه المواضع، لأن الباب، كما تقدم مرارا، غيبي، فلا دخل للعقل فيه أصلا إلا على وجه الانقياد والتسليم، وإن كان لابد من قياس فهو فرع عن إثبات النص، لا أصل فيه، فالعقل أصل في العلم بالنص ومعرفة معانيه وتدبرها لا في ثبوته، فهو، كما يقول العلماء، مع النص بمنزلة العامي مع العالم لا يسعه إلا التقليد، بل النص أعلى منزلة من ذلك، لأن العامي قد يبلغ يوما ما مرتبة العالم إذا تفقه، والعقل مهما ترقى في معارج الكمال لا يمكنه أن يدرك الحقائق الغيبية إلا بتوقيف من الشارع، عز وجل، فآل أمره في النهاية إلى التسليم والمتابعة، وكلما كان أكثر انقيادا، كان أكثر كمالا، لأن تمام الحكمة في تمام التسليم للوحي المعصوم، لاسيما في باب لا دخل للعقل فيه، على التفصيل المتقدم، وفي عالم البشر، يمدح من سلم للمتخصص البارع الذي شهد له بالإتقان في حرفة أو مهنة ما، لأنه وضع الأمر في نصابه، كمريض تحرى حتى عرف أمهر الأطباء، فسلم له جسده مطمئنا، مع أنه بشر يصيب ويخطئ، وخبره خبر واحد، أفلا يسلم الواحد منا بعد ذلك روحه للوحي المعصوم الذي لا يخطئ، فيقبل أخباره سواء أكانت آحادا أم متواترة، كما قبل خبر أهل الصناعات في صناعاتهم؟!!!!.

ومن ذلك أيضا:

قوله تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ).

فالقرب هنا، أيضا، إما أن يكون بالمعنى العام الذي يقتضي قربه، عز وجل، من خلقه، لأن له كمال الإحاطة: زمانا ومكانا، كما تقدم في أسماء: الأول والآخر، والظاهر والباطن، وإما أن يفسر القرب هنا بـ: قرب ملك الموت، عليه السلام، وأعوانه، بدلالة السياق، فهو سياق احتضار وخروج روح.

وقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).

فالقرينة قد دلت هنا، أيضا، على أن المقصود، هو إثبات ألوهية الله، عز وجل، في السماء وفي الأرض، وليس المقصود: وجود ذاته القدسية في السماء وفي الأرض، فيكون في كل مكان، كما يدعى أهل الاتحاد والحلول العام، فلم يقل: وهو الموجود في السماوات وفي الأرض ليصح استدلالهم، ومن هنا كان تفسير: لا إله إلا الله بـ: لا موجود إلا الله، من أفسد ما يكون، لأن الوجود، وإن كان واحدا بالنوع، إلا أنه متعدد الأفراد، فوجود المخلوقات نفسها متعدد: فزيد له وجود، وعمرو له وجود آخر ............. إلخ، ولا يلزم من اتحادهما في الدلالة المطلقة لـ: الوجود، اتحادهما في الدلالة المقيدة، فإذا كان التباين حاصلا بين الكائنات ممكنة الوجوب، فكيف بالله، عز وجل، واجب الوجود، إذا ما قورن بمخلوقاته ممكنة الوجوب، فالتسوية بين الوجود الواجب الكامل، والوجود الممكن الناقص: تسوية بين مختلفين لا تقبلها العقول السليمة، ولابد من معنى يمتاز به الرب، جل وعلا، عن بقية الموجودات، تتضمنه الشهادة: أعظم أركان الإسلام، فـ: لا إله إلا الله، عند المحققين تعني: لا معبود بحق إلا الله، ففيها إفراد الباري، عز وجل، بمعنى لا يشترك معه فيه غيره من المعبودات الباطلة، وهو: العبودية الحقة، عبودية أهل السماء وأهل الأرض، عبودية استسلام القلب وانقياد الجوارح، وقد علم أن العرب تقول: فلان أمير في مصر وفي الشام، ولا يفهم عاقل من ذلك أنه حال بذاته فيهما، وإنما المقصود: إثبات ترأسه وسيادته عليهما في نفس الوقت، وإن خلتا من ذاته، ولله المثل الأعلى، فهو الإله في السماء والأرض، ولا يلزم ذلك حلول ذاته فيهما لما في ذلك من معنى: إحاطتهما به، وهو معنى باطل قد دلت النصوص على انتفائه.

وقد ختمت الآية بالإشارة إلى علمه المحيط، عز وجل، وهي قرينة سمعية معتبرة تسوغ القول بأن المقصود: وهو الذي بعلمه في السماء وفي الأرض، فتكون الآية دليلا معتبرا على إثبات معية الله، عز وجل، العلمية، وهي معية عامة لكل الخلق، فلا يخلو من علمه مكان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير