ولكن هذه المعية لا تكون لأي أحد فقد علقت بوصفي: التقوى والإحسان، تعلق الحكم بعلته، فهي دائرة معهما وجودا وعدما، فمتى وجدا، فقد تحققت العلة وثبت لازمها: النصر والتأييد، ومتى تخلفت فقد تخلف لازمها.
وقوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فالمعية هنا، أيضا، معية خاصة، ولكنها أخص من التي قبلها، لأن تلك قيدت بوصف يتحقق في أفراد كثر، بينما قيدت هذه بأفراد بعينهم، فكان الله، عز وجل، مع نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه الصديق، رضي الله عنه، ينصرهما ويؤيدهما ويذهب عنهما الحزن، وسياق الآية، وسياق الواقعة يدل على ذلك، بلا تكلف أو تعسف، ولا يتصور في مقام كهذا أن تكون المعية المقصودة هي: المعية العامة، لأنها تجعل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا تحزن إن الله معنا، لغوا، يتنزه عنه كلامه عليه الصلاة والسلام، إذ لمعترض أن يقول: والله، عز وجل، مع من كانوا خارج الغار، أيضا، فأي فضل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، في أمر يستوي فيه المؤمن والكافر، فهو بمنزلة قولك: فلان يأكل الطعام ويشرب الشراب، فلا مزية فيه توجب التفضيل، لأن البشر كلهم يأكلون ويشربون، وفي هذه الآية رد قوي على من أنكر فضيلة الصديق، رضي الله عنه، في هذا الموقف العظيم، وتعسف وتكلف وكسر أعناق النصوص ليجعل المنقبة مثلبة، فمن كان الله معه، ناصرا ومؤيدا، كيف يطعن في عدالته، وقد اطلع الله، عز وجل، على ما في قلبه من إيمان وتقوى، فاختاره لصحبة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونصرهما من القوم الظالمين.
وقوله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).فهي كقول المنجد لمن استنجد به: لا تخف أنا معك، ولو كانا مفترقين بأبدانهما، ولله المثل الأعلى، فالمعية والسمع والبصر هنا: للتأييد والنصرة بقرينة: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى).
وحديث أبي موسى، رضي الله عنه، مرفوعا وفيه: (وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ) فالمعية هنا: معية إجابة لقرينة: "والذي تدعونه"، فالدعاء تناسبه الإجابة.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت).
فلا يتصور عاقل أن الله، عز وجل، مع العبد بذاته في كل مكان، وإنما الكلام في: معية الاطلاع والقدرة والسلطان، وهي التي توجب حذر العبد وخشيته من خالقه، عز وجل، أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره.
وهكذا يلتمس لكل نص ما يناسبه من القرائن اللفظية المعتبرة وتجتنب القرائن العقلية المتوهمة إلا إن كان لها مستند سمعي صحيح فتصير، عندئذ، غير متوهمة، لأنها استمدت اعتبارها من اعتبار الدليل السمعي الدال على صحتها فلا استقلال لها في هذا الباب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
ويراعى في مثل هذه المسائل الجليلة: جمع أدلة الباب ورد متشابهها إلى محكمها، فلا يقتصر المستدل على دليل دون آخر، وإنما يُعمل النصوص جميعا ليصل إلى الحق: بغية كل طالب.
وللقريب جذران لغويان:
جذر لازم يدل على صفة القرب الذاتية: وسبق بيانها.
وجذر متعد من: قرب، بفتح الراء وتشديدها، وقد علم أن تضعيف عين الفعل الثلاثي اللازم مما يعديه إلى المفعول بنفسه، كـ: شَرُف وشَرَف بفتح الراء وتشديدها، فيكون القرب من صفات الأفعال المتعلقة بمشيئة الله، عز وجل، وفي التنزيل: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا).
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 11 - 2007, 02:48 م]ـ
مع:
53_ المجيب:
¥