وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فتوسيع الأقوات مرتبط بإقامة أحكام الملة، وتعظيم قدر الشريعة، فالارتباط بين التقدير الكوني والتقدير الشرعي وثيق الصلة، فالعز والتمكين في الدنيا والآخرة يكون لعباد الرحمن الذين رفعوا لواء دينه، وأقاموا شعائره وشرائعه، وإن وقع لهم الابتلاء بالتضييق، ابتداء، تمحيصا لما في القلوب، وفي التنزيل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، و: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، ولا تمكين انتهاء إلا بابتلاء ابتداء، كما أثر عن الشافعي، رحمه الله، نسأل الله، عز وجل، العافية في الدين والدنيا.
وفي الاستدراج:
قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
فليست كل سعة في الأقوات نعمة، بل قد تكون استدراجا تعقبه نقمة.
يقول المناوي رحمه الله: (المسعر هو الذي يرفع سعر الأقوات ويضعها، فليس ذلك إلا إليه وما تولاه الله بنفسه ولم يكله إلى عباده لا دخل لهم فيه).
وأما التسعير الشرعي: فهو متعلق بأفعال المكلفين من جهة منع الظلم وكف التجار عن ظلم العباد باحتكار الأقوات لترتفع أسعارها، فتضيق أرزاق المسلمين، ومن جهة منع وقوع الظلم على التجار في نفس الوقت بفرض أسعار لا تناسبهم، عند حصول الرخاء والسعة، فالمسألة تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن، فالبلاد الغنية يختلف حالها عن البلاد الفقيرة، وأزمنة الرخاء غير أزمنة الشدة.
والمسعر: اسم فاعل من التسعير، من: سعر النار إذا رفعها وأوقدها، فمادة الفعل تدل على الارتفاع، ووجه المناسبة بينه وبين النار أن ألسنة اللهب ترتفع إذا أوقدت النار وسعرت، وفي التنزيل: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ)، ويقال: ناقة مسعورة كأن بها جنونا من سرعتها، أو مسعورة بمعنى: جوعانة متلهفة إلى التهام الطعام.
والمسعر، سبحانه، هو الذي يسعر بعدله العذاب على أعدائه، في الآخرة، فهو متعلق من هذا الوجه بتدبيره الكوني، ويعذب من يشاء بالنار في الدنيا، فلا يعذب بالنار إلا هو، فهو متعلق من هذا الوجه بتدبيره الشرعي، إذ النهي عن التعذيب بالنار تكليف شرعي، وقد خصه بعض أهل العلم بما إذا كان الحرق بالنار قصاصا فمن حَرَقَ حُرِق.
وعند أبي داود، رحمه الله، من حديث حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ فَخَرَجْتُ فِيهَا وَقَالَ إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحْرِقُوهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ).
وقد استدل بعض الأصوليين بهذا الحديث على جواز وقوع النسخ قبل التمكن من الفعل لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمرهم ابتداء، ونهاهم انتهاء قبل أن يفعلوا ما أمروا به.
¥