والمنان، عز وجل، هو العظيم الهبات الوافر العطايا، الذي ينعم غير فاخر بالإنعام والذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وهو المعطي ابتداء وانتهاء، فلا يطلب الجزاء في إحسانه إليه بل أوجب بفضله لعباده حقا عليه، وفي التنزيل:
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).
و: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
و: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
و: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وفي حديث معاذ، رضي الله عنه، مرفوعا: (فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا).
والمنة من الصفات التي يظهر فيها الفرق بين صفات الباري، عز وجل، وصفات خلقه، فالمنة في حقه، عز وجل، كمال مطلق، لأنه المنعم المتفضل حقيقة، وفي حق آحاد خلقه: نقص، لأن المنان مذموم شرعا، كما عند مسلم، رحمه الله، من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، وفيه: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ).
وتقدم أن من الصفات ما هو:
كمال في حق الخالق، عز وجل، نقص في حق المخلوق، كـ: الكبرياء والعظمة، فاتصاف الغني، سبحانه، بهما: كمال، واتصاف المخلوق المفتقر إلى ما سواه من الأسباب: نقص.
وما هو: كمال في حق المخلوق، نقص في حق الخالق، عز وجل، كـ: النكاح، فالقادر عليه من الخَلق يوصف بالكمال، والله، عز وجل، منزه عنه، لأنه، وإن كان كمالا من جهة، إلا أن فيه نقصا لا ينفك عنه، من جهة حاجة الناكح، فهو ينكح شهوة وافتقارا إلى الولد، والباري، عز وجل، غني عن الصاحبة والولد، فضلا عن ورود النص، وهو العمدة في هذا الباب، بامتناع ذلك على الله، عز وجل، وفي التنزيل: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فهو خالق، كل شيء، فما عداه مخلوق، ولا يتصور أن يتخذ الخالق، عز وجل، صاحبة من جنس ما خلق، لأن الخالق، عز وجل، لا ند له ولا نظير يكافئه، والزوجة لابد أن تكافئ زوجها، ولو من جهة الخَلق، وهذا أمر مشاهد في الأزواج المخلوقة، فلكل ما يناسبه، فللآدمي ما يناسبه، وللحيوان، باختلاف أجناسه ما يناسبه تبعا لاختلاف جنسه.
والمنان لا يملك، حقيقة، ما من به، وإنما هو مجرد سبب أجرى الله، عز وجل، به العطاء على خلقه، فإنه لا يوجد سبب مستقل بذاته في الوجود، فلا بد له من: أسباب تنضم إليه، وموانع تنتفي عنه، حتى يحصل المقصود منه، والله، عز وجل، هو: خالق الأسباب ومُسَبَباتها، وخالق القوة في السبب والقابلية في المحل، فقد يرد السبب على محل غير قابل، فلا ينتج مُسببه، فلا استقلال لأحد من الخلق بعطاء يعطيه، ليمن به على غيره.
يقول الطحاوي رحمه الله:
"فإنه لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَة الله وَتَيْسِيرِه - لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُرْجَى إِلَّا الله، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عليه، وَلَا يُسْأَلُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُسْتَغَاثُ إِلَّا به، وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا هُوَ، فله الْحَمْدُ، وإليه الْمُشْتَكَى، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وبه الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّة إِلَّا بالله. فَكَيْفَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوبٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ
¥