والله، عز وجل، هو الشافي مطلقا فهو الذي: يشفي النفوس من الشبهات والشهوات، بما أنزل على قلب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الآيات البينات، وهو الذي يشفي الأبدان من عللها، وإنما الأسباب كالآلات بيد الصناع، فكما لا يقال: السيف ضرب العنق، إلا على وجه: المجاز الإسنادي، بإسناد الفعل إلى غير فاعله، وإنما السياف هو الذي ضرب العنق، فكذلك لا يقال: الدواء شفى المريض، إلا على وجه المجاز، أيضا، وإنما الشافي حقيقة هو الله، عز وجل، فهو الذي قدر الشفاء أزلا، وجعل الدواء سببا فيه، بما أودعه فيه من قوة الشفاء، فهو سبب مؤثر، يحصل الشفاء به، ولكنه لا يستقل بالتأثير، بل هو تابع لمشيئة الله، عز وجل، الكونية، فإن شاء الله، عز وجل، أثر السبب فشُفي المريض، وإن شاء لم يؤثر لانتفاء شرط أو وجود مانع، أو لمحض المشيئة الكونية المهيمنة، فلم يشف المريض.
وفي التنزيل: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ).
فأتى بضمير الفصل "هو" الذي يفيد التوكيد في: الهداية والإطعام والشفاء، لأن بعض الناس قد يظن حصولها استقلالا، كأن يعتقد أن الرسول البشري يستقل بهداية البشر: هداية توفيق، وإنما الصحيح أن هدايته مقصورة على الإرشاد والدلالة، أو يعتقد أن الطعام يشبع بنفسه، وإنما هو سبب مؤثر لا يستقل بإحداث الشبع بدليل أن بعض الناس يأكل فلا يشبع، أو يعتقد أن الدواء أو الطبيب يشفيان بنفسهما، وإنما الصحيح أنهما سبب على التفصيل المتقدم.
ولم يأت بالضمير في الموت والحياة، لأن أمرهما ظاهر، فالله، عز وجل، هو المحيي المميت، فلا يشتبه ذلك على عاقل.
وفي قوله تعالى على لسان الخليل صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ): تأدب مع الباري، عز وجل، بنسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، عز وجل، مع أن كليهما منه، تبارك وتعالى، ونظير ذلك:
قوله تعالى على لسان الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، فحذفوا الفاعل في الشر، وأثبتوه في الرشد، مع أن الله، عز وجل، هو خالق الخير والشر جميعا، وإن كان الشر لا ينسب إليه إلا على جهة الخلق، مع كونه شرا في المقدور المخلوق نفسه، لا في ذات الخلق والقدر، ففيه من المصلحة ما يفوق مفسدة إيجاده، فهو خير من هذا الوجه، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث علي رضي الله عنه: (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ).
وفي "معرفة السنن والآثار" للبيهقي رحمه الله: "وروينا عن النضر بن شميل، أنه قال في قوله: «والشر ليس إليك: تفسيره: الشر لا يتقرب به إليك» وقال المزني: مخرج هذه الكلمة صحيح، وهو موضع تعظيم، كما لا يقال: يا خالق العذرة، وكذلك لا يقال: يا خالق الخنزير، ولا ينبغي أن يضاف إليه التقصير"
وقوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، فنسب العيب إلى نفسه مع كونه لا يخرج عن إرادة الله، عز وجل، الكونية، بل والشرعية في هذا الموضع بعينه، لأنه لم يقصد عيبها إضرارا بهم، بل قصد نفعهم كما دل على ذلك سياق القصة.
وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا).
فنسب القتل إلى نفسه، والإبدال إلى الله، عز وجل، مع أن كليهما من قدره، ونسب استخراج الكنز إلى الله، عز وجل، لأنه خير محض.
وكلما كانت النفوس أقرب إلى الله، عز وجل، صار حصول الشفاء للنفس أو البدن بالرقى الشرعية والأذكار النبوية، أو حتى بالأدوية الحسية أقرب، وهو أمر تتفاوت فيه القلوب بعددها.
¥