وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي ******* وَقَبْلَكَ رَبَّتْني فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعني بقوله:"ربتني": ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه". فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل: "هو ربّان"، كما يقال: "هو نعسان" من قولهم: "نعَس يَنعُس". اهـ
ومنه حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ).
يقول القرطبي رحمه الله: "قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: (هل لك من نعمة تربها عليه) أي تقوم بها وتصلحها". اهـ
ومن شواهد مجيء الربوبية بمعنى التعاهد والتنشئة شيئا فشيئا:
قول الشاعر:
ربيته حتى إذا ما تمعددا ******* كان جزائي بالعصا أن أجلدا
وقول قرمان بن الأعرف:
وربيته حتى إذا ما تركته ******* أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وهو كناية عن استغنائه عن الخدمة، والكناية لا تمنع إرادة معنى اللفظ الأصلي بالإضافة إلى معنى المكنى عنه.
ورب الشيء: هو مالكه، ومنه قوله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)، أي: مالكه، فإضافة المخلوق المنفصل عن ذات الباري، عز وجل، إليه، إنما تكون على إضافة التشريف والتكريم، كما في قوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، و: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، و: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، و: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، فابتداء نفخ الروح في جسد آدم عليه السلام من الله، عز وجل، وإنما أضاف الروح المخلوقة إليه، جل وعلا، تشريفا وتكريما لآدم عليه السلام، و: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا).
بخلاف ما لو كان المضاف إليه، جل وعلا، صفة قائمة بذاته القدسية، لا تنفصل عنها، إذ لا قيام لها إلا بالذات العلية، فتكون الإضافة هنا: إضافة صفة إلى موصوف كما في: (إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، فالكلمة هي: "كن"، وكلمات الله، عز وجل، الكونية والشرعية من صفاته الذاتية، باعتبار نوعها، الفعلية، باعتبار آحادها، وأما الإضافة في قوله تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ): فهي، كالنوع الأول: إضافة تشريف، فابتداء خلق روح المسيح صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما كان من الرب، جل وعلا، وأضيفت روحه إلى خالقها تشريفا وتكريما لها، فهي روح زكية، لرسول من أولي العزم عليهم الصلاة والسلام: صفوة الخلق.
أو إضافة موصوف إلى صفة، كما في قوله تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فليست الإضافة هنا كالإضافة في: رب البيت، لأن صفة العزة: صفة كمال لا تنفصل عن الذات القدسية، فالمعنى هنا: صاحب العزة، بخلاف: رب البيت، فهو صاحبه، أيضا، ولكنه: خالقه، ولا يصح ذلك في وصف العزة، لأن عزة الله، عز وجل، فرع على ذاته، فكما أن ذاته القدسية: غير مخلوقة، فكذا صفات الكمال القائمة بها.
فضابط المسألة: تحديد جهة الإضافة: فإن كانت إضافة مخلوق إلى خالق فهي إضافة تشريف وتكريم، وإن كانت إضافة صفة إلى موصوف فهي إضافة وصف، وسبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.
ويطلق الرب، أيضا، على السيد المطاع، ومنه:
¥