وبهذا تنحل شبهة الاتحادية الذين سووا بين وجود الباري، عز وجل، ووجود المخلوق، فجعلوا الوجود واحدا، لمجرد الاشتراك في وصف الوجود الكلي المطلق في الأذهان، فظنوا أن هذا كاف في نفي الفارق بين وجود الباري، عز وجل، الأزلي الأبدي الكامل، ووجود المخلوق الفاني الناقص، فالجنس والنوع عندهم واحد، والصحيح أن: جنس الوجود، وهو: معناه الكلي واحد، بخلاف أنواعه فهي تتباين بتباين الموجودات، بل إن وجود النوع الواحد يتباين تبعا لتباين أفراده، فوجود زيد غير وجود عمرو غير وجود بكر .............. إلخ، على التفصيل المتقدم في الربوبية، وعلى هذا فَسِر في كل صفات الباري، عز وجل، الذي أثبتها لنفسه، وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالاشتراك في المعنى: لا إشكال فيه، بل إن الإشكال في نفيه، لأنه يصير نصوص الصفات ألفاظا مبهمة لا معنى لها، فيكون الأمر بتدبر آي القرآن: تكليفا بمحال، إذ كيف يتدبر الإنسان ما لا يعلم معناه، فالعلم بالمعنى: أول درجات التدبر، وقد تقرر في الأصول أن: التكليف لا يكون إلا بمعلوم مقدور، والتكليف بتدبر ألفاظ لا يعلم معناها: تكليف بمجهول فهو محال.
والربوبية إما أن تكون:
عامة: كما في:
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فهو رب كل الكائنات، سواء أكانت عاقلة أم غير عاقلة، وإنما خص العاقل بالذكر في هذا السياق تغليبا، فهو من باب: الخاص الذي أريد به العام، أو من باب: إطلاق البعض وإرادة الكل، ويشترك في هذه الربوبية: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي .... إلخ.
وقوله تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام رادا على فرعون ومن حوله: (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)، مع أنهم كانوا كفارا جاحدين، فتبين أن الربوبية هنا هي ربوبية الإيجاد والتنشئة والانقياد لأمره الكوني وإن خالفوا أمره الشرعي.
أو خاصة: كما في:
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فربوبية الله، عز وجل، لعبده ورسوله محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أعلى مراتب الربوبية الخاصة التي لا تكون إلا لمؤمن، وأكمل الخلق إيمانا: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله تعالى على لسان إمام الموحدين: الخليل صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ).
وقوله تعالى على لسانه أيضا: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى).
وقوله على لسان الكليم عليه الصلاة والسلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
وقوله على لسانه أيضا: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).
وقوله على لسان زكريا عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وقوله على لسان مريم عليها السلام: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).
وقوله على لسان أمها: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصى.
وقد اجتمعا في قوله تعالى: (قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)، فذكر الربوبية العامة ثم أتبعها بذكر الربوبية الخاصة، فالسياق: خصوص بعد عموم، لنكتة لطيفة، وهي أن: إقرار السحرة بالربوبية العامة في هذا الموضع بعينه: مجمل يحتاج إلى بيان، لادعاء فرعون، لعنه الله، الربوبية، فلا يحصل البيان بالربوبية المطلقة، لاحتمال قصدهم فرعون، ولو احتمالا ضئيلا تدفعه قرينة الحال والسياق، فقطعوا كل احتمال، بذكر الربوبية الخاصة، التي حصل بها تمام البيان، فصار إيمانهم محكما لا يتطرق إليه أي إلباس.
وإلى ذلك أشار ابن هشام، رحمه الله، بقوله:
"وإنما قال العلماء في قوله تعالى: {ءامَنَّا بِرَبّ الْعَلَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَرُونَ} إنه بيان، لأن فرعون كانَ قد ادعى الربوبية، فلو اقتصروا على قولهم: {بربِّ العالمين} لم يكن ذلك صريحاً في الإيمان بالرب الحق سبحانه وتعالى". اهـ
¥