"شرح شذور الذهب"، ص445.
والألوهية لازم الربوبية، فالارتباط بين: الرب الخالق، والإله المعبود: ارتباط وثيق، بينته آيات كثيرة منها:
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، فذكر الرب الهادي، عز وجل، في الآية الأولى، وذكر حقه من عموم الألوهية في الآية الثانية: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ)، فاللام: للاستحقاق، فلا إله معبود بحق سواه، وعلة ذلك أنه: (رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَه)، فلا شريك له في ربوبيته، ليشرك به في ألوهيته.
وتأمل دعاء يوسف عليه الصلاة والسلام:
(رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، فصدر دعائه: توسل بالربوبية: (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) إلى الألوهية: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، فالأولى: وسيلة تراد لغيرها، والثانية: مقصد يراد لذاته.
وسيد الاستغفار كما في حديث شداد بن أوس، رضي الله عنه، مرفوعا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)
فأوله ربوبية: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي)، وتاليه ألوهية: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)، وثالثه ربوبية: (خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ)، متوسلا بها إلى ألوهية: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)، فغفران الذنوب نهاية السؤل.
وقد سلك القرآن الكريم في إثبات الربوبية مسلكا بديعا اعتمد فيه: "السبر والتقسيم" في مواضع، و "قياس الأولى" في مواضع:
فالسبر والتقسيم يكون بحصر الاحتمالات وترداد النظر فيها حتى يصل المستدل إلى علة الحكم، فيكون ما عداها: من قبيل الأوصاف الطردية التي لا تصلح لتعليل الحكم، فيقال على سبيل المثال:
حكم الخمر: التحريم، وأوصافها: الإسكار والطعم واللون والرائحة والقوام ........ إلخ، فترداد النظر في هذه الأوصاف يقطع بأن علة تحريمها: الإسكار، لأن الطعم واللون والرائحة والقوام: أوصاف طردية، فكم من السوائل التي تشترك مع الخمر في لونها أو سيولتها ...... إلخ من الأوصاف الطردية، ومع ذلك لم يحكم الشارع، عز وجل، بتحريمها.
وهكذا أمر الربوبية في نحو:
قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)، فالاحتمالات المذكورة ثلاثة:
أنهم خلقوا من غير شيء: فهذا محال لأن الحادث لابد له من محدث.
أو: أنهم هم الخالقون: وهذا، أيضا، محال، لأنهم كانوا عدما قبل خلقهم فكيف يوجد العدم موجودا؟.
أو: أنهم خلقوا السماوات والأرض، فذكرها من باب: الخصوص بعد عموم: "الخالقون"، لأن التحدي بخلقها تحد بآية من أعظم آيات ربوبية الخالق عز وجل.
فلم يبق إلا الاحتمال الأخير وهو المحذوف لدلالة السياق عليه، وهو: أنهم مخلوقون مربوبون لرب خالق بارئ مصور، تبارك وتعالى، قدر خلقهم من الأزل، فأخرجهم من العدم إلى الوجود، وصورهم فأحسن صورهم، فيكون هو وحده: المستحق لكمال ألوهيته فرعا على تمام ربوبيته.
¥