وفي حديث جبير بن مطعم، رضي الله عنه، مرفوعا: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ}، قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ).
وهذا الجدال العقلي البديع من أروع دلائل إعجاز هذا القرآن العظيم، فهو معجز بمبناه ومعناه، فتجتمع في ألفاظه الموجزة: المعاني الكثيرة، التي تفنى الأقلام في خطها، والصحف في تدوينها.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)، فنفى نفع دعاء غيره من المعبودات، لأن المعبود المسئول إما أن يكون:
مالكا مستقلا: وهذا محال فالكون كله ملك لخالقه عز وجل.
أو: شريكا: فلا شريك له عز وجل.
أو: ظهيرا معاونا: والله، عز وجل، الغني، فلا يحتاج إلى معونة خلقه، بل الخلق كلهم مفتقرون إلى معونته: إيجادا وإعدادا وإمدادا، وفي التنزيل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
وأسلوب السبر والتقسيم يظهر في مواضع عدة غير مواضع إثبات الربوبية فيظهر في:
مقام وصف الله، عز وجل، في نحو:
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، فنفى احتمال كونه، جل وعلا، مولودا من غيره، ونفى كونه والدا لغيره، ونفى مماثلة غيره له، ولو من غير ولادة، فلم يبق إلا أنه الصمد: الباقي بعد فناء كل خلقه، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فـ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وكذا في قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فلم تكن له صاحبة، فكيف يكون له ولد، ونفي الملزوم يقتضي نفي اللازم، ولا ند له ولا نظير، فهو خالق كل شيء، والصاحبة إنما تكون من جنس زوجها، وهو مع خلقه للكائنات: بكل شيء عليم، فهو، عز وجل، موصوف بالفعل مع الإرادة مصداق قوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، لا أنه فاعل بالطبع: فعل العلة المستوجبة لمعلولها اضطرارا، فيكون اتصافه، عز وجل، بالخلق، اتصاف النار الصماء البكماء بالإحراق فهي تحرق رغما عنها فلا إرادة لها لتختار، كما زعم الفلاسفة أصحاب الفهم السقيم والقلب المريض.
فأبطلت الآية مزاعمهم بأوجز عبارة وأوفى بيان.
ومن السبر والتقسيم أيضا:
قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).
فالاحتمالات ثلاثة:
أن يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حضر نداء موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا محال يكذبه العقل والحس.
أو: يكون قد رحل إلى مدين فتلقى هذا الخبر من أهلها، وهذا أمر يكذبه الحس فلم يدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أرض مدين، ولم يجلس إلى معلم قبل بعثته، مصداق قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).
فلم يبق إلا الاحتمال المحذوف لدلالة الاحتمالين المذكورين عليه وهو أنه: تلقى هذا الخبر عن الوحي المعصوم، وهذا أحد أوجه إعجاز القرآن العظيم، ففيه من أخبار الماضين ما لا يعلمه إلا نبي مرسل.
¥