تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المسيح عليه الصلاة والسلام، وهذا ما وقع فيه المعتزلة لما قالوا بخلق القرآن، فإن لازم كلامهم: أن ذات الله، عز وجل، مخلوقة، لأن صفتها مخلوقة، وكل مخلوق يلحقه الفناء، وتصور لازم هذا القول كاف لإبطاله.

ثم إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليس هو: "كن"، أصلا، وإنما خُلِق بـ: "كن"، مصداق قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فقال له: "كن"، لا أنه هو نفس: "كن" ولو كان هو: "كن" لجاز لمخرف أن يقول بأن هذا الكون قد خلق بـ: عيسى عليه الصلاة والسلام، وأن معنى قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): أنه، عز وجل، إذا أراد شيئا فإنما يقول له: يا عيسى!!!!.

وإما: أن يكون متولدا من غيره، وهذا، أيضا، من أبطل الباطل.

وإما أن يكون له مكافئ، وهذا، أيضا، من أبطل الباطل.

فلزم أنه، عز وجل، المتفرد بكل كمال لا يدانيه كمال، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في المداخلة السابقة.

ولله المثل الأعلى في كل شيء، ليس في صفاته فقط، فله المثل الأعلى، في أسمائه وأفعاله.

وفي التنزيل: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)، و: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، واللام في: "ولله"، و: "له" لام الاستحقاق، و: "أل" في: "الأعلى": جنسية استغراقية تفيد استغراق أوصاف العلو والكمال، فاستغراقها استغراق مجازي كما قرر البلاغيون: استغراق معان لا ذوات، وتقديم ما حقه التأخير يدل على القصر والتوكيد، فله، جل وعلا، دون من سواه، المثل الأعلى الكامل في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.

انظر: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، (2/ 198) وما بعدها.

ففي أفعاله: لا تقاس أقداره الكونية، وهي من أفعاله، على أفعال عباده: قياس تمثيل أو شمول، فلا يقال: إن تقدير الفعل على العبد قبل وقوعه ثم حسابه عليه، أمر لا يتصوره العقل البشري، فهذا محال فعلا في حق البشر، ولكن مقاييس العقول البشرية، وهي نسبية محدودة، كما تقدم، لا تجري على أفعال خالق هذه العقول، إذ كيف يحكم الفرع على الأصل، وكيف يقيس المخلوق أفعال خالقه، تبارك وتعالى، على أفعاله؟!!!.

ومع ذلك فإن للعقل دورا إيجابيا في بعض مسائل هذا الباب:

ففي الرد على المعتزلة الذين قصروا فائدة الأمر على: الامتثال فقط، فأنكروا: النسخ قبل وقوع الفعل، لأنه، بزعمهم، لا فائدة منه، فتأولوا: أمر الله، عز وجل، إبراهيمَ بذبح إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إذ ما الفائدة من أمره بشيء قد سبق في علم الله، عز وجل، أنه لن يقع؟، والجواب: أن فائدة الأمر ليست مقصورة على الامتثال فقط، كما زعموا، بل هي دائرة بين: الامتثال والابتلاء، فأمرُ إبراهيم بذبح إسماعيل هو من باب الابتلاء، وقد مثل له الأصوليون بالسيد إذا أمر عبده بأمر ما، وهو لا يريد وقوعه، وإنما يريد ابتلاءه: أيطيع فيستحق الثواب، أو يعصي فيستحق العقاب، مع علمه بأن العبد سيمتثل إن كان مطيعا وسيمتنع إن كان عاصيا، ولله المثل الأعلى، فعلمه بأحوال عباده: كلي تفصيلي، فالقياس هنا صحيح لأنه: قياس أولى، فإن ذلك لو ثبت للعبد على جهة الكمال، فهو ثابت لله، عز وجل، من باب أولى.

وفي باب الأمر الشرعي الذي علم الله، عز وجل، عدم وقوعه، كأمر أبي جهل، لعنه الله، بالإيمان، مثل العلماء لذلك بـ: من يأمر غيره بما ينفعه، كما أمر الله عز وجل أبا جهل بما ينفعه من الإيمان، مع إرادته عدم وقوع ذلك، لما يترتب على ذلك من مصلحة تفوق مصلحة امتثاله، ولله المثل الأعلى هنا، أيضا، فإن تقدير وقوع الشر، الذي هو شر باعتباره مقدورا لا قدرا فقدر الله عز وجل خير كله، تقدير وقوع هذا الشر يتحقق به من الخير ما لم يكن ليتحقق لولا وقوعه، فهو شر من جهة فعل العبد، خير من جهة فعل الرب، لما يترتب عليه من مصلحة عاجلة وآجلة، وهذا أصل يتمسك به في كل المصائب الكونية سواء أكانت: خاصة كفقد حبيب، أو: عامة كنكبة تحل بالمسلمين، كما هو مشاهد اليوم في كثير من أقطار المسلمين، ففي العراق الحبيب، على سبيل المثال: حلت النكبة ابتداء، وتعرض الموحدون لزلزال شديد، فكانت شرا من جهة المقدور، فلما قام أهل العراق المخلصون بامتثال الأمر الشرعي بجهاد المحتل الكافر وأذنابه من المبتدعة والخونة، صارت المحنة في حقهم منحة، فاتخذ الله، عز وجل، منهم من اتخذ: شهداء، ولا نزكيهم على ربهم، وموعود الله، عز وجل، لمن بقي منهم بالنصر والتمكين، لن يتخلف ما استمسكوا بدينه وأقاموا شرعه في سلمهم وحربهم.

فصار العقل في هذه المسائل: تابعا يشهد للوحي ويؤيده، لا متبوعا يقدح في الوحي ويعارضه، فالقياس في الأخبار والغيبيات: نافلة لا تقبل إلا بعد فريضة التسليم لخبر الوحي الصادق.

والله أعلى وأعلم.

يتبع إن شاء الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير