تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واستفحل الأمر بزوال دولة بني أمية ذات العصبية العربية التي ارتبط الوحي بلغتها ارتباطا وثيقا، وجاءت الدولة العباسية ذات العصبية الأعجمية، فمهد ذلك لظهور المزيد من الأقوال المنحرفة، وإن كان الأمر في وجود خلفاء أقوياء، أشداء في حرب البدعة وإفناء أهلها كالمنصور والمهدي والرشيد، أحسن حالا منه في عهد المأمون الذي مكن لأخواله من العجم، فنشطت حركة الترجمة في عهده، وتولى كبرها مترجمون غير مسلمين من أبناء الأمم التي قهرها الإسلام، لا وازع لهم يردعهم عن ترجمة ما يفسد عقائد المسلمين من تراث اليونان المليء بالكفريات والأساطير، فانتقلت المعركة من ساحات الوغى إلى ساحات المعارف والعلوم، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، رحمه الله، وهذا لون من ألوان الغزو الخارجي، وهو: الغزو الفكري الذي نعاني منه في العصر الحاضر.

وازداد الأمر ترديا لما نجح أحمد بن أبي دؤاد في إقناع الخليفة المأمون بانتحال عقيدة خلق القرآن، بل وحمل الناس على انتحالها قسرا، بل وامتحان خواص الأمة وعوامها عليها، فكان ما كان من فتنة خلق القرآن التي قيض الله لها أحمد، رحمه الله، فكان بطلها الأول بلا منازع، حتى رفع المتوكل العباسي، رحمه الله، المحنة، وأظهر السنة.

وكانت هذه المعركة في حقيقتها معركة بين معسكرين:

معسكر متمسك بأصول وثوابت الإسلام الصحيح يمثله الإمام أحمد رحمه الله.

ومعسكر متأثر بالأفكار الوافدة على أمة الإسلام، هزم أتباعه أمام فلسفات الأمم الأخرى لضعف تمسكهم بأصول الإسلام، تماما كما هو الحال اليوم في الصراع القائم بين المعسكر الإسلامي والمعسكر العلماني المنبهر بأضواء المدنية الأوربية الحديثة، وكأن مدنية "الماكدونالدز" و "الكوكا كولا" و "الإنترنت" هي الحضارة التي تصلح لقيادة البشر بغض النظر عن الدين والشريعة والأخلاق التي امتاز بها الإسلام عن بقية الملل، سواء أكانت محرفة ذات أصل سماوي كاليهودية والنصرانية، أم وضعية لا أصل لها كالبوذية والهندوسية ........... إلخ.

وبإزاء انكباب الناس على ملاذ الدنيا، نمت بذرة التصوف في تربة الجماعة المسلمة، فظهر مجموعة من أفاضل الزهاد، اعتزلوا الناس، ووقع منهم بعض التجاوزات، ولكنها لم تتعدى دائرة العمل، وكالعادة، بدأت نحلة التصوف: شبرا، وانتهت: أذرعا، بل وأميالا!!!!، فجاء بعدهم من أدخل فلسفات الهند والفرس واليونان في طريقة التصوف، فهي اتجاه فكري ظهر في كل الأمم السابقة، لاتفاق العقلاء على مدح طريقة: الزهد والتزكية، ولكن ذلك لا يكون إلا بوحي منزل، وإلا فلكل طريقته في التزكية، كما هو مشاهد اليوم في طرق التصوف، فلكل منها: شيخ، وأذكار، وطقوس، ومناهج في التزكية ......... إلخ، وكل حزب بما لديهم فرحون.

وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل تعداه إلى الخوض في المسائل العلمية، فصارت بدع متأخريهم كالحلاج وابن عربي وابن سبعين والتلمساني وابن الفارض ........ إلخ، بدعا عقدية تنقض أصل الدين، فظهرت بدع: الحلول والاتحاد ووحدة الوجود في كلام متأخريهم لاسيما: ابن عربي، الذي يعتبر، مُنَظِر هذا الفكر الإلحادي، إن صح التعبير، وكلامه في "الفصوص" و "الفتوحات المكية" خير شاهد على ذلك.

وباستيلاء الأتراك الذين اصطنعهم المعتصم العباسي، رحمه الله، على مقاليد الحكم الفعلي في الدور الثاني لدولة بني العباس ابتداء من زمن المنتصر بالله، الذي تواطأ معهم على قتل أبيه المتوكل، ضعفت الدولة الإسلامية في المشرق، واضطربت أمورها مما مهد لظهور المزيد من التيارات الفكرية المنحرفة التي فتت عضد الأمة فظهر القرامطة، أصحاب الفكر الباطني، في عهد المعتمد العباسي، وظهرت حركة "الزنج" التي نجح الموفق طلحة، رحمه الله، أخو المعتمد في القضاء عليها بفضل الله، عز وجل، ثم بفضل إدارته الماهرة للأزمة، بعد أن أحدث القوم خرابا هائلا في البصرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير