"رأت فتية باعوا الاله نفوسهم
بجنات عدن عندهم ونعيم " (9)
والرغبة في الموت يصكها البهلول بن بشر الشيباني بقوله:
"من كان يكره أن يلقي منيته
فالموت أشهى الى قلبي من العسل " (10)
وتمثل أم حكيم, في أرجوزة لها، السأم من الحياة, ومن حمل رأسها بين كتفيها، والعناية بغسله ودهنه, ثم تطرح سؤالا فيه من الطرافة, بمقدار ما فيه من ضجر العيش تقول:
"أحمل رأس قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله" (11)
هذه الرغبة في الموت لدى الخوارج هي عامة, يستثنى منها ما ورد في شعر الطرماح بن حكيم من تلجلج بين الزهد وقطف متعة الحياة, وهذا الشغف العارم الذي نجده في شعر الطرماح, وتوهج حب الحياة في قصائده, لعله يعزى الى تعلقه بزوجه وأولاده, فهذا الحب حبب اليه الحياة بذاتها, وقد يكون ترك حمل السلاح, وعد من القعدة, تبعا لذلك (12).
ولكن ثمة خيطا لابد من الامساك به في هذه المسالة. فزهد الخوارج في العيش, وزهدهم في المتعة والسلطة, لم يكن انسحابا من ساحة الحياة انسحاب العدميين والانتحاريين, بل شكل لديهم ذلك حافزا على خوض المعارك الطاحنة والقتال المستمر, من أجل تصويب وضع سياسي أصابه الخلل في مركز السلطة, فهذا الزهد أورثهم الشجاعة ولم يورثهم الخوف أو الانسحاب. يقول الطرماح في أحدى قصائده (على الرغم من غلبة القعود عليه).
"واني لمقتاد جوادي وقاذف
به وبنفسي اليوم احدى االمقاذف "
لذلك فإن قصر أعمار الخوارج, على قول أبي العيزار, كان بسبب اعتبارهم الموت باب الحياة, من جهة, ولرغبتهم في أن يموت الواحد منهم حتى آخر الموت. لأن الموت عينه سيميته الموت في النهاية, فكل شيء فان وموت الموت معنى سبق اليه شاعرهم عمران بن حطان في قوله
" لا يعجز الموت شيء دون خالقه
والموت فان إذا ما ناله الأجل " (14)
لقد سبق بهذا المعنى المبتكر المتنبي، الذي يورد في أحدى قصائده موت الموت, وذعر الذعر، كما سبق له الشاعر الانجليزي Donne, حين صرخ: "أيها الموت, إنك ميت لا محالة». " death, Thou Shalt Die' »
والموت المرتجى للخارجي ليس في كل حال, موت الفراش أو موت القعدة, بل هو الموت الملحمي, وهو ما منحهم الشجاعة في الحروب. ولعل ثمة صورة تلج على الكثير من اشعارهم, هي صورة قبر الخارجي على أنه بطن الطير أو النسر. يقول عمران بن حطان:
"أكرم بقوم بطون الطير قبرهم "
ويقول الطرماح: «ويصبح قبري بطن نسر مقيله " (17)
فمقولة الموت, مقولة أساسية في شعر الخوارج, وهي سدي ولحمة الكثير من هذه الأشعار, وتحمل دلالة من دلالاتهم الاعتقادية. كما تحمل دلالة أخرى على شجاعتهم في القتال والمواجهة.
يضاف الى ذلك, هذا الجمع الفذ بين حدي الزهد من جهة والشجاعة الملحمية في الحرب من جهة وقد سبقهم الى هذا الجمع خصمهم الأول الامام علي بن أبي طالب, فهو زاهد مقاتل, وهي من المفارقات التي تستدعي الانتباه. لذلك كان رأي علي فيهم متوازنا, على الرغم من أنهم الد أعدائه. فقد اعتبرهم فئة طلبت الحق فأخطأته, وهم يختلفون بنظره, عن فئة أخرى طلبت الباطل فوقعت عليه لذلك نصح أصحابه الا يحاربوا الخوارج من بعده أبدا.
وقد اشتهر من بينهم في الزهد والعبادة عدد كبير. من بينهم عروة بن حدير أحد بنى ربيعة بن حنظلة. وكان كثير العبادة جريئا في الحق. كفر زيادا في وجهه فأمر به فصلب (18) ومنهم صالح بن مسرح, كان ناسكا، لكنه لم يدع للقعود، بل خرج بنفسه بعد اتفاق بينه وبين شبيب, عاد فانفصل عنه وله في نفوس الخوارج مقام كبير ومنهم مرداس بن أدية, وهو يعتبر من قيادييهم الفرسان الأكثر تقي واستقامة, وأدى مقتله عام61هـ، الى فزع في قلوبهم وحزن كبير عليه, انعكس في أشعارهم (19). وأشعارهم تعكس هذه الناحية التعبدية فيهم يقول عمرو القنا بن عميرة العنبري, واصفا أصحابه منهم:
"معي كل أواه برى الصوم جسمه
ففي الوجه منه نهكة وشحوب (20)
ويقول قيس بن الأصم الضبي:
"صلى الاله على قوم شهدتهم
كانوا إذا ذكروا أو ذكروا شهقوا" (21)
¥