أما السمة الثالثة من سمات شعر الخوارج, وهي سمة ذات قيمة تسجيلية وتاريخية, تسمح لنا باعتبار الكثير من اشعارهم بمثابة وثائق تاريخية دالة على حروبهم وأحوالهم, فهي تسجيلهم لهذه الأيام والمعارك في قصائدهم, وذكرهم لأسماء القواد والمحاربين, ولبعض ما جرى في تلك المعارك. حتى أن بعض شعرهم يذكر لنا عدد المقاتلين من كل فريق, في المعركة. فنحن نعرف, من بيت لعيسى بن عاتك الخطي في يوم آسك, وقد انتصر فيه الخوارج على جيش أموي كبير، أن عدد الخوارج كان أر بعين, وعدد جيش العدو كان ألفين, وذلك من خلال قولة:
" أألفا مؤمن فيما زعمتم ويهزمهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولكن الخوارج مؤمنونا (22)
ونحن نعرف من شعرهم ما جرى في يوم دولاب, وما كان من مقتل نافع بن الأزرق الحنفي زعيم الأزارقة فيه, وما جرى في يوم سولاف (22)، حيث سجلوا نصرا على المهلب بن أبي صفرة الى يوم جيرفت, ويوم دقوقاء، وهما يومان انتصر فيهما الحجاج وشتت شملهم من بعد ذلك, ويوم قوس وهو اليوم الذي قتل فيه عبيدة بن هلال اليشكري, ويوم خساف الذي انتصر فيه الضحاك بن قيس الشيباني, ويوم كفرتوتى حيث قتل الضحاك, ويوم قديد, وهو يوم انتصار أبي حمزة الخارجي، ودخوله المدينة منتصرا (سنة 130هـ) وخطبته المشهورة فيها (24).
ولهم أبيات وقصائد في معارك سلى وسلبرى (25)، وعين الجوسق (26)، وهي بمثابة سجل لمعاركهم ووقائع أيامهم.
ولم يكن أحد من شعراء الخوارج ليحترف الشعر أو يتكسب به, على عكس ما اتصف به شعراء البيت الأموي السياسيون, فقد اتخذوا من الشعر حرفة وتكسبا. وكان الخوارج ينفرون من التكسب بالشعر، ويعتبرونه منقصة. فقد انتقد عمران بن خطان الفرزدق, حين سمعه ينشد شعره متكسبا, ونصحه بالا يطلب شيئا إلا من رب العباد وأبياته في ذلك مشهورة, وهي:
"أيها المادح العباد لتعطي إن لله ما بأيدي العباد
فاسال الله ما طلبت إليهم وارج فضل المقسم العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه وتسمي البخيل باسم الجواد " (27)
وهذا الشعر يتمتع بخصائص تكاد تكون متشابهة, فهو "يقدس الانسان الخارجي تقديسا عميقا" (28) كما يقول احسان عباس, ويعتبر العصبة الخارجية العصبة المثالية ويعكس حدتهم العقائدية في أسلوبهم الكتابي، الذي جاء متوترا، وجاءت أبياتهم وكأنها معدة لرجز المعارك. وقد استخدم كثير منهم الرجز, لهم أراجيز كثيرة في حربهم مع المهلب. منها:
"حتى متى يتبعنا المهلب
ليس لنا في الارض منه مهرب
ولا السماء ... أين. أين المذهب.؟ " (29)
كما اشتهر منهم بين الخوارج نساء مقاتلات وشاعرات, منهن أم حكيم وهي التي شبب بها قطري بن الفجاءة, وقد حاربة معه, وكانت "جميلة " الوجه, شجاعة, متمسكة
بعقيدتها. ولها مقام كبير في نفوس الخوارج (30).
وتذكر مريم الجعيداء, امرأة أبي حمزة. قالت مرتجزة وهي تقاتل:
"من سال عن اسمي فاسمي مريم
بعت سواري بسيف مخذم " (31)
وهذه الأشعار وسراها تظهرهم وكانهم يقولون الشعر بلسان واحد (32).
وهي أشعار تنطوي بمجملها على ضعف فني وبلاغي بين. فهي لهذه الناحية لا تستحق الاهتمام من مؤرخي الأدب, ولكنها تنطوي على قيمة تسجيلية كما سبقت الاشارة. وذلك لشدة تطابقها مع حياة الخوارج. وفي هذه النقطة بالذات, يكمن "سر قوة الشعر الخارجي وضعفه في آن» (33). وهو مأزق كل شعر ملتزم على العموم. إن ذلك لا يعني أن جميع ما وصلنا من شعر الخوارج, مشمول بحكم واحد. فإن الثلاثة الكبار من بينهم, وهم عمران بن حطان (34) والطرماح بن حكيم (35) , وقطري بن الفجاءة (36)، يمتازون بخصائص إبداعيه عالية، سيما الطرماح من بينهم, حيث يعده اخباريو الأدب, خاصة علماء اللغة منهم, كأبى عبيدة والأصمعي, في الطبقة الأولى من الشعراء (37). ومعظم شعر الطرماح في العصبيه القحطانيه (38). كان له اهتمام بالغريب من اللغة, حتى قيل إن ابن الاعرابي عجز عن تفسير ثماني عشرة مسألة من غريب شعره (39). ولعله أخذ ذلك عن رؤبة بن العجاج (40). يقول في أصحابه الشراة:
"لله در الشراة. فهم إنهم إذا الكرى مال بالطلى أرقوا
يرجعون الحنين آونة وإن عاد ساعة بهم شهقوا
خوفا تبيت القلوب واجفة تكاد عنها الصدور تنفق
كيف أرجى الحياة بعدهم وقد مضى مؤنسي فانطلقوا" (41)
¥