ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها". رواه الإمام أحمد".
"اقتضاء الصراط المستقيم"، ص326، 327.
والشرع والحس والعقل شهود على أن التشبه في الظاهر لا يكون إلا بعد التشبه في الباطن، فمنشؤه داخلي، وأعراضه خارجية، فإن الإعجاب الباطن يسبق التقليد الظاهر، فمن أحب صورة، سعى إلى محاكاتها في كل أفعالها في: الملبس، وطريقة الكلام والمشي والجلوس، وإن كانت خارجة عن حدود اللياقة والأدب، بل وطريقة صف الشعر، ومن يمشي في شوارع المسلمين يدرك ميل قطاعات عريضة من الشباب المسلم إلى تقليد الغرب الكافر في صور مستهجنة يرفضها أي عاقل، وإن كان غير مسلم، فإن كثيرا من النصارى العرب لا يرضون بارتداء هذه الملابس، أو تقليد هذه الصور الممسوخة، لمنافاتها لأي عقل صريح، أو بقية فطرة سوية، وإن اشتركوا معهم في رجس الشرك والتثليث، فالمسألة عندهم: مسألة ذوق، والمسألة عندنا: مسألة شرع قبل أن تكون ذوقا ولياقة وحسن سمت.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب".
والأثر عند:
ابن أبي شيبة، رحمه الله، من طريق: ابن فضيل عن ليث عن معن.
و: وكيع في "الزهد"، و هناد بن السري في "الزهد"، بلفظ: "لا يشبه الزي الزي، حتى تشبه القلوب القلوب"، من طريق "ليث"، أيضا، وهو: ليث بن أبي سليم، وهو: ضعيف، ولكن معنى الأثر صحيح، والحس يصدقه.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، وكذلك: الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون، والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة والمؤلفة وقلة النفرة.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضاً أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم - ولو بالقليل - هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة". اهـ
"اقتضاء الصراط المستقيم"، ص329، 330.
والطباع سراقة، والإنسان مجبول على تقليد غيره، كما يقول علماء السلوك، فمن لم يقلد أهل الحق قلد أهل الباطل.
وعن حكم الدخول عليهم في كنائسهم في أيام أعيادهم:
روى البيهقي بإسناد صحيح، في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم، والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد، عن عطاء بن دينار قال: قال عمر: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".
والأثر عند عبد الرزاق، رحمه الله، من طريق الثوري عن أبي عطاء بن دينار، (ولعل الصواب: عطاء بن دينار كالطريق السابق) بلفظ: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".
وعند ابن أبي شيبة، رحمه الله، من طريق: وكيع عن ثور عن عطاء موقوفا عليه بلفظ: "لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم كنائسهم، فإن السخط ينزل عليهم".
¥