منهما يمتدح صاحبه بعبارات لا تليق إلا بكبار الأدباء والشعراء، فيتعاونان بحسن نية أو بسوء نية على التدليس والتلبيس على العامة بحيث يقبل القول منهما بمقتضى ذكرهما مع كبار الأدباء، فيكونان قد اشتركا في هذه الجريمة العلمية.
وآخر يدلس فيقول مثلاً (قال شيخنا فلان رحمه الله تعالى ويكثر من هذه العبارة) فيظن السامع أن للقائل علاقة وثيقة وحميمة مع الشيخ حتى روى عنه كل هذه الأقوال وبعد التثبت من ذلك تجد أن هذا الدعي الأشر لم يجلس إلى الشيخ فلان إلا مرة أو حضر درساً له سمعه من شريط أ وتلفاز فيخرج فيروي كل هذه الأحاديث والأقاويل، فهذه أيضاً نوع من التدليس الجديد والمعاصر.
وهذه العبارات الموهمة غالباً اليوم تكون عن قصد سابق من قبل كثير من الكتاب حتى يحصلون على الثقة من قبل القراء، وهي كالذي يقول مثلاً مفاخراً (أنا الذي أطعم العائلة الفلانية وأسقيهم) فتظن أنه من كبار أغنياء البلدة، ومن كبار الأسخياء، ثم يتبين لك أنه خادم عند هذه العائلة الفلانية يقدم لهم المائدة ويطبخ لهم الطعام والشراب.
وقد وقع في مشكلة ومعضلة التدليس كثير من طلبة العلم اليوم فيقولون عبارات موهمة مؤولة تحتمل وجوه عن سابق قصد ونية بالتلبيس على الناس والتدليس على العامة.
و قد أحسن مَن قال:
أيُّها العالِم إيّاك الزَلَل ... و احذَرِ الهفوةَ فالخَطبُ جَلَلْ
هفوةُ العالِمِ مُستَعظَمَةٌ ... إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْقِ مَثَلْ
إن تكُن عندَكَ مُستَحقَرةٌ ... فهيَ عِندَ اللهِ و الناسِ جَبَلْ
أنتَ مِلحُ الأرضِ ما يُصلحُهُ ... إن بَدا فيهِ فَسادٌ أو خَلَلْ
و لخطورة التدليس وأهله ومن اتصف بهذه الصفة، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها، مرتّبةً على النحو التالي:
أولاً ــ مقدمة في معنى التدليس:
في اللغة من الدّلس، وهو اختلاط الظلام بالنور.
وفي الاصطلاح: أن يحدّث الرجل عن شيخ قد لقيه وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمع منه، بلفظ يوهم السماع كـ " عن فلان " أو " قال فلان "، وسُمي هذا بالتدليس لاشتراكه مع المعنى اللغوي في الخفاء في كل منهما.
ثانياً ــ أقسامه من حيث علوم الحديث:
وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. تدليس الإسناد: وهو أن يسقط اسم شيخه الذي سمع منه، ويرتقي إلى شيخ شيخه بلفظ يوهم السماع كعن وأن وقال، أو يسقط أداة الرواية ويسمي الشيخ فقط، فيقول: فلان. مثلا.
واختلف في أهل هذا القسم، فقيل: يرد حديثهم مطلقا، سواء أثبتوا السماع أم لا، وأن التدليس نفسه جرح، والصحيح التفصيل فإن صرح بالاتصال كقوله " سمعت " أو "حدثنا" أو "أنبأنا" فهو مقبول يحتج به، وإن أتى بلفظ يحتمل فحكمه حكم المرسل.
2. تدليس الشيوخ: وهو أن يصف الشيخ المسمع بوصف لا يعرف به من اسم أو كنية أو لقب أو نسب إلى قبيلة أو بلدة أو صنعة أو نحو ذلك.
قال ابن الصلاح: وأمر هذا أخف من القسم الأول.
وقد جزم ابن الصباغ بأن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره يجب أن لا يقبل خبره، وإن كان يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك، لجواز أن يعرف غيره من جرحه مالا يعرفه هو، وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول، لا يجب قبول خبره حتى يُعرف من روى عنه.
3. تدليس التسوية: وهو أن يروي حديثا عن شيخ ثقة غير مدلس، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس الذي سمع من الثقة الأول غير المدلس فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة الثاني بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات.
وهذا أشر الأقسام؛ قادح فيمن تعمد فعله، وقال العلائي في التحصيل في المراسيل: (ولا ريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع).
تنبيه:
اعلم أن الشافعي أثبت أصل التدليس بمرة واحدة، قال ابن الصلاح: والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين قد أجراه الشافعي فيمن عرفناه دلس مرة، وممن حكاه عن الشافعي البيهقي في المدخل.
ثالثاً ــ حكم التدليس، وحكم من عرف بِهِ:
مضى بنا في أنّ مجموع معانيه تؤول إلى إخفاء العيب، وليس من معانيه الكذب، ومع ذَلِكَ فَقَدْ اختلف العلماء في حكمه وحكم أهله.
¥