فيها لأهل العلم، والمقصود أن طالب العلم لا يبقى، ويقول: أنا لا أدعو حتى أنتهي من طلب العلم، هذا تقصير، ويتحمل التبعية، بل يدعو على قدر علمه، حتى ولو في أحكام العبادات، لو قام بعد صلاة العصر كل يوم وتكلم عن هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والمناسبات خلال السنة، لكان خيراً كثيراً، ولا يتعلم أحد سنة منك فيعمل بها إلا كنتَ شريكه في الأجر، ولو أن هذا المتعلم منك علَّمَ أبناءه وبناته وأهله وجيرانه، أو نطق بهذه السنة في مجلس، لكان لك مثل أجره، حتى جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فينصب له ميزان، فتأتي أعمال كالسحابة، فيقول: يا رب .. ما هذه الأعمال؟. هذه ليست بأعمالي، فيقول الله تبارك وتعالى: بلى .. هذه سنن دعوتَ إليها، كان لك أجر من عمل بها) ([102]). فالتجارة مع الله ربح وفوز ([103])، فلذلك أقول: إن طالب العلم يُعلِّم، ولكن على قدر علمه.
السؤال الثالث:
كيف تكون مجادلة العلماء ومماراة السفهاء التي في الحديث؟ نرجوا التوضيح، وجزاكم الله خيراً ([104]).؟.
الجواب:
قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب العلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء -وفي رواية: أو ليصرف وجوه الناس إليه- فهو في النار) ([105]).
هذا الحديث العظيم ينبغي لكل طالب علم أن يجعله نصب عينيه؛ لأنه يتعلق بأول خطوة في الطلب، وهي إخلاص النية لله عز وجل، التي هي من أجلّ أعمال القلوب.
فالقلوب محل نظر الله عز وجل: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم) ([106]).
لا ينظر الله إلى فصاحة طالب العلم ولا إلى جماله ولا إلى ماله، ولكن إلى نيته وتعلقه به جل وعلا.
ولكن ما أن يغير طالب العلم نيته -والعياذ بالله- إلا غيّر الله عليه، فيقسو قلبه من بعد لين، وتنقبض نفسه من بعد انشراح، فيصبح هدفه من العلم الرياء والسمعة والثناء وصرف وجوه الناس إليه، قالو: (أول العلم غرور وطفرة، وآخره سرور ورحمة).
فمن راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به، قال بعض العلماء في معنى الحديث: إن الله يقيمه على رؤوس الأشهاد ويقول: هذا فلان ابن فلان الذي راءى الناس، فَيرى الناسُ ذلته وحقارته في ذلك الموضع -والعياذ بالله-، نسأل الله عز وجل ألَّا يجعلنا ذلك الرجل. وأما في الدنيا فلا يؤمن عليه من مكر الله، يستدرجه في تحصيل العلم، حتى إذا حصّل علماً كثيراً، صرف قلوب الناس عنه -والعياذ بالله-، لا تجد من يرتاح لعلمه، ولا من يرتاح للتعلم على يديه، قد نفرت القلوب من كلامه وأسلوبه، وكست الظلمة مجلسه ووجهه، وهذا من عاجل مكر الله لمن راءى في علمه. نسأل الله السلامة والعافية.
ومن إمارات وعلامات المماراة والمجادلة للعلماء: أن تجد طالب العلم إذا ذكرت أمامه مسألة يُشكك ويعترض، ويقول: هذا لا يستقيم، هذا لا يصير، هذا كذا، هذا كذا، وهو لم يفقه بعد، ولم يراجع المسألة، ويعرف وجه مأخذ العالم ودليله.
ولذلك قالوا: من كان ديدنه مجادلة العلماء لم يأمن أن يرد آية أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلك، ناهيك عن محق بركة علمه.
ولذلك ذكروا في ترجمة أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ([107]) رحمه الله، وكان وعاءً من أوعية العلم في الحديث والفقه، حتى كانت له اجتهادات انفرد بها، هذا العالم -رحمة الله عليه-، كاد أن يكون مغموراً ولم يشتهر علمه، والسبب -كما ذكره من ترجم له- أنه كان كثير الاعتراض والتعنت لابن عباس رضي الله عنهما.
وكان لبعض مشايخنا منهجاً تربوياً لطلابه؛ يستحب عدم مناقشة الطلاب في مجلس العلم، ويترك للطلاب أن يتناقشوا فيما بينهم، ثم إذا لم يستطيعوا حلّ الإشكال رجعوا إليه؛ لأن ذلك ربما جرّأ السفلة والرعاع والمبتدئين على عدم إجلال وتقدير واحترام العلم، وربما أدى إلى كسر هيبة العلماء في النفوس.
ما كنا -والله- نعرف سوء الأدب والاعتراض على العالم في مجلس العلم، ولا حرج في المناقشة التي تدل على حُبّ الفهم ومعرفة الحق والاقتناع بالدليل ومعرفة التفصيل؛ لأنه لا يمكن ضبط العلم إلا بها، ولكن تكون بأصول وضوابط شرعية سامية، تصون حرمة العلم وقدر العلماء.
¥