التعقب، حيث يحكي الذهبي رحمه الله كلام الحاكم، ثم يتعقبه، بتصحيح أو تضعيف، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تعقبه لحديث أخرجه الحاكم رحمه الله في المستدرك، وصححه على شرط مسلم، من طريق شعبة عن أبي بلج، فقال: قلت (أي الذهبي رحمه الله): لا يحتج به (أي أبو بلج)، وقد وثق، وقال البخاري: فيه نظر.
حكاية كلام الحاكم، وهذا موافقة منه له.
السكوت، وهذا هو الذي حدث فيه الخلاف بين أهل العلم، فذهب الشيخ الحميد حفظه الله، إلى أن سكوت الذهبي رحمه الله، إقرار للحاكم، ولكنه في نفس الوقت نبه إلى أن الذهبي، قد يسكت أحيانا على كلام الحاكم، ولا يقصد بذلك إقراره، وإنما يكتفي بإبراز الراوي المتكلم فيه، ويرى أن هذا كاف لإعلال الحديث، وإن لم يصرح بذلك.
وقد رد الشيخ الحميد حفظه الله، على الرأي القائل بأن سكوت الذهبي ليس إقرارا للحاكم بقوله، بأن هذا القول لم ينص عليه أحد من العلماء، بل إن منهم من ينقل كلام الحاكم، ويقول: ووافقه الذهبي، كالزيلعي، وكابن الملقن رحمه الله، الذي اختصر كتاب الذهبي، ومن الأمثلة على ذلك:
حديث: (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة غير سببي ونسبي)، حيث أخرجه الحاكم رحمه الله في ترجمة فاطمة رضي الله عنها، من حديث المسور مرفوعا، بلفظ: (إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري)، وقال ابن الملقن رحمه الله: وقال الحاكم صحيح وأقره عليه الذهبي، (وهذا هو الشاهد).
ومن أبرز من أيد الرأي المعارض الشيخ الدكتور حاتم الشريف حفظه الله، حيث قال:
وأما الإستدلال بتعقب الذهبي على أن سكوته يدل على الإقرار، فهو استدلال ضعيف، لأنه خلاف الأصل في عمل المختصر، الذي لا يعدو سكوته أن يكون نقلاً لما في الأصل، ويدل على أن الذهبي لم يلتزم التعقب في كل ما يخالف فيه الحاكم - سوى ما سبق- الأمور التالية:
قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" في ترجمة الحاكم، مجلد (401هـ- 420هـ) - (132)، وهو يتحدث عن (المستدرك):"ففي المستدرك جملة وافرة على شرطهما، وجملة كبيرة على شرط أحدهما، لعل مجموع ذلك نحو النصف، وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء، أو له علة، وما بقي، وهو نحو الربع، فهو مناكير وواهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات، قد أعلمت بها لما اختصرت هذا المستدرك، ونبهت على ذلك"، فهذا النص يدل على أن الذهبي لم يعتن ببيان كل الواهيات، وإنما اعتنى بالتعليق على بعضها، وخاصة الموضوعات، ألا ترى أنه ذكر أن ربع الكتاب مناكير وواهيات، في حين أنه لم يتعقب إلا قدر ثمن الكتاب، حيث إن عدد أحاديث الحاكم يبلغ (9045)، وعدد تعقبات الذهبي (1182) حديثاً، في حين أن ربع أحاديث كتاب الحاكم هو (2261)، وهذه الإحصائية مستفادة من مقدمة تحقيق مختصر إستدراك الذهبي لابن الملقن، وبناءً على ذلك فإن الذهبي كان يعلم بوجود ضعف في الأحاديث التي تعقبها في المستدرك من الواهيات، وقد سكت عنها، فهل يصح أن نعتبر سكوته بعد ذلك إقراراً؟ بل إن ربع المستدرك عند الذهبي - سوى الربع الأول-، أحاديث ظاهرها الصحة، ولها علل خفية تقدح في صحتها، وعلى هذا: فالذهبي كان يعلم أنه لم يتعقب إلا قدر ربع الأحاديث المنتقدة عنده هو، فكيف يعتقد أن سكوته إقرار وموافقة بعد ذلك؟!!
ومما يشهد لذلك أيضاً: انتقاد الذهبي لغير ما حديث في المستدرك، في غير المختصر من كتبه الأخرى، مع سكوته عنه في المختصر، ومن ذلك:
1. لما صحح الحاكم حديثا (1/ 544 - 545)، وسكت عنه الذهبي في المختصر، ذكره في الميزان (1/ 136 رقم 547) حاكماً عليه بالبطلان، ثم قال: "قال الحاكم: صحيح الإسناد. قلت: كلا. قال: فرواته كلهم مدنيون. قلت: كل ا. قال: ثقات. قلت: أنا أتهم به أحمد".
2. وصحح الحاكم حديثاً آخر (2/ 545)، وسكت عنه الذهبي في المختصر، لكنه قال في الميزان (3/ 179 رقم 6042): "صححه الحاكم، وهو حديث منكر كما ترى".
3. وصحح الحاكم حديثاً ثالثاً (2/ 493)، وسكت عنه الذهبي في المختصر، وقال في العُلُو للعلي العظيم (1/ 593 رقم 146): "شريك وعطاء فيهما لين، لا يبلغ بهما رد حديثهما، وهذه بلية تحير السامع، كتبتها استطراداً للتعجب، وهو من قبيل اسمع واسكت".
وبعد هذا كله، لئن أصرَّ من فرط منه رأي سابق في هذه المسألة، على أن سكوت الذهبي عن تعقب الحاكم إقرار منه وموافقة، أقول له: ما قيمة هذا الإقرار؟ وقد صرح الذهبي بأن مختصره للحاكم يعوزه عمل وتحرير، كما في السير، وبلغ هذا الإعواز إلى حد أنه لم يتعقب إلا نحو ربع ما يستحق التعقب عنده. إن الإصرار على ذلك الرأي ماهو إلا شين للذهبي لا زين، وتمسك بحبل رث غير متين!!!
وهذا التقرير بأدلته -لا شك- أنه أولى من تقليد بعض أهل العلم، الذين اعتبروا مجرد سكوت الذهبي إقراراً، كالسيوطي في النكت البديعات (197)، والمناوي في فيض القدير، والحسيني في البيان والتعريف، وغيرهم من العلماء المعاصرين.
¥