يتجاوز بضعة أسطر فيحتاج هذا إلى ضبط بالعلامات حتى لا تقرأ الكتاب كله وكأنه
فقرة واحدة ... فالحاجة شديدة لإخراج الكتاب بطريقة تساعد على تجاوز تلك
العقبات والمعوّقات. والتحقيق للكتاب كفيلٌ بذلك كله، إن شاء الله تعالى.
تلكم هي بعض الإيجابيات فيما أراها لتحقيق كتب التراث، وهي على غاية
من الأهمية تسوّغ ما ينفق من جهد في عملية التحقيق، فإن لم نحصل على هذه
الإيجابيات أو على معظمها، فإن عملية التحقيق قد تكون ناقصة، أو غير مستوية
على أصول صحيحة، ويمكن عندئذ أن نرصد جملة من الشوائب أو السلبيات
الظاهرة التي ينبغي أن نسعى جميعاً للتخلص منها.
ولبعض التحقيق سلبيات:
إن ما يتبدى لنا من ملاحظات وسلبيات في تحقيق كتب التراث يمكن أن
نجعله مندرجاً في أمور ثلاثة:
أولها: الانحراف عن الهدف الأساس الذي يتغيّاه المسلم من نشر العلم،
تدريساً وتأليفاً وتحقيقاً؛ ألا وهو القيام بواجب الطاعة والعبادة؛ فإن ذلك كله عبادة
يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى، يبتغي بها الأجر والمثوبة، قبل أن يطلب بها
عَرَضاً من الدنيا، أو أن يسعى من ورائها إلى شهرة أو تحقيق شهوة. والنصوص
الشرعية في ذلك كثيرة متضافرة.
وعن هذه القضية الكبرى، أو عند الانحراف عن هذه الغاية، أو نسيانها،
تظهر جملة من الانحرافات أو السلبيات، ثم تتراكم مع الزمن لتشكل خطراً على
تراثنا الإسلامي على ما سنلمع إليه بعد هذا الإجمال.
وثانيها: إغفال القواعد الضابطة التي اتفق عليها المحققون في نشر كتب
التراث، والاضطراب في مفهوم التحقيق والغاية منه؛ حيث تحوّل عند بعض
الذين يزعمون التحقيق، إلى شيء آخر، لا علاقة له بالتحقيق، وإنما هو شرح أو
حاشية أو تقريرات على الكتاب، أو عملية نفخ وعبث بالكتب وهذا أيضاً ترتب
عليه جملة أخرى من السلبيات والأخطاء.
والثالث: وهو مما له صلة بما سبقه؛ أن بعضهم تسوّر هذا العلم، وهو
خالي الوفاض، غير مُؤهّل له، لا يمتلك إلا شهوةً وهوىً يدفعانه للعمل، ولذلك
وقع في كثير من الأخطاء، واحتُسبت هذه الأخطاء على التحقيق وأهله، دون أن
يردع عنها دينٌ أو خُلُقٌ من الأمانة والحياء.
وهذه الملاحظات الإجمالية، يمكن أن نؤيدها بالإشارة إلى كثير من السلبيات
التي رصدها المعنيون بهذا التراث، أو رصدوا جملةً وافرة منها تشير إلى ما
وراءها، وإن كانت النية متجهة أصلاً إلى بيان الإيجابيات أكثر من بيان السلبيات، لكن لخطورة هذه الجوانب السلبية، ينبغي التنبيه والتحذير.
فمن هذه السلبيات التي كانت نتيجة الانحراف عن المنهج السليم في التحقيق:
1 - عدم اتباع قواعده الضابطة له: أن نجد كتباً كثيرة يعوزها العناية أكثر
بالعمل، مثل ضبط الأعلام والأسماء التي لا تعرف إلا سماعاً، وبالرجوع إلى
الكتب المتخصصة بذلك، ومنها أيضاً: التوسع في التعليق والشرح، ونقل
نصوص كثيرة في الحواشي لأدنى مناسبة، وأحياناً دون مناسبة، مما يضخم حجم
الكتاب، وقد يجعله كالطبل الأجوف، وأحياناً على الضدّ من ذلك: تقرأ كتاباً يقع
في مجلداتٍ، لا تجد فيه تعليقاً، ولا تقع فيه على شرحٍ لمصطلح، أو عزو لآية،
أو تخريج لحديثٍ، أو نسبة بيت شعر لقائله. وقد يكون الكتاب كله سرداً واحداً من
أوله إلى آخره، لا تعرف فيه بدايةً لفقرةٍ أو فكرة أو مسألة.
2 - تحقيق الكتاب عن نسخة واحدة، وقد تكون نسخة سقيمة، مع وجود نُسَخ
أخرى جيدة قيّمة تساعد على إخراج نصٍ كامل صحيح للكتاب. وعندئذ يقع المحقق
في كثير من الأخطاء، ويقف في كثير من المواضع لا يدري ماذا يصنع؛ لأنه
يرى السياق أمامه غير مترابط، وكأن فجوة كبيرة أمامه. ولا أريد أن أضرب
أمثلة على هذا من كتب كثيرة زعم بعضهم أنهم حقّقوها ... وهي تمتلئ بهذه
الملاحظات السابقة؛ لأن هذا المقال لا يهدف إلى التشهير بأحدٍ، أو التقليل من
الجهد، وإنما يهدف إلى رصد السلبيات والدلالة عليها بكلمات عامة؛ ولو اتجهنا
إلى ضرب الأمثلة، فإن الأمر جدّ ميسور، وهي كثيرة!
3 - إغفال نشر الكتب الأصول في العلم، والأمهات في كل فن من الفنون
الشرعية والعربية ونحوها، والاهتمام بكتب تأتي في مرتبة تالية أو متأخرة، وقد
¥