لقد تذكرتُ الآن ما يحيكه أعداء الأمة لنا بليلٍ بهيم، وما يُراد بعقولنا وعلومنا، وأقول: لا عليكم أعداء الإسلام، كفاكم تعبًا في تفريغ أمتنا من إبداعها؛ وسيقوم بعضُ المنتسبين لنا بهذا نيابةً عنكم!!
ولنترك هؤلاء وما قالوا، ولنعُدْ إلى أزمنة العقل والحكمة، ودار العلم والإبداع، عند أسلافنا الكرام، لنرى رأيهم في المسألة المطروحة.
وسأكتفي هنا بمثالين مشهورين؛ إِذْ يصعب حصر الأمثلة في الباب لكثرتها جدًّا؛ إِذْ هي الأصل في سبيل أهل العلم ومصنفاتهم.
المثال الأول: البخاري رحمه الله وتاريخه الكبير.
وقد ورد عن البخاري رحمه الله أنه قال عن تاريخه هذا: ((صنفتُه ثلاث مرات)).
ولا يعني كلام البخاري قطعًا أنه قد ضاع الكتاب أو فُقِدَ منه، فاضطره ذلك لإعادته ثانيًا وثالثًا، وإنما أراد الإمام رحمه الله تعالى بكلامه: ما زاده الإمام على نسخته الأولى والثانية من تحريرات وتجويدات وتحسينات علمية، سواء بالزيادة أو النقصان.
وبناءً على هذا اختلفت نُسخ التاريخ الكبير فيما بينها، وفي بعضها ما لا يوجد في الأخرى، حتى قال الخطيب في ((الموضح)) أثناء كلامه على تعقبات ابن أبي حاتمٍ على البخاري: ((وقد حكى عنه في ذلك الكتاب أشياء هي مدوّنة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكاية عنه)).
واستظهر الشيخ المعلمي رحمه الله أن بعض تعقُّبات الرازيين على البخاري من اختلاف نسخ التاريخ، وبعضها من النُّسّاخ ... إلخ.
وقد ذكر الشيخ المعلمي رحمه الله ذلك في مقدمة كتاب ابن أبي حاتم: ((بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه)).
المثال الثاني: الإمام الذهبي رحمه الله تعالى.
وسأقتصر هنا على ما قاله أبو محمد بشار عواد في تحقيقه لكتاب ((تهذيب الكمال)) للمزي (1/ 77) حيث قال: ((قلنا سابقًا: إِنَّ الحافظ المزيَّ حَدَّثَ بكتابه خمس مرات وإنه عاش مدة طويلة بعد الانتهاء من تأليفه، لذلك كنتُ حذرًا الحذر كله وأنا أطالع النُّسَخ، وأدرسها، وأقارن بينها خوفًا من أن يكون الرجل قد غَيَّرَ في كتابه بعض ما وجدَه حريًّا بالتغيير كما هي عادة جمهرة من العلماء ممن سبقه أو عاصره، لكن الذي ظهر لي بعد طول التتبع أنه لم يقم بأيِّ تغييرٍ أو تبديل على المُبَيَّضة التي انتهى منها في عيد الأضحى سنة (712)، وأنه اعتمدها إلى حين وفاته باستثناء بعض الإضافات والتعديلات اليسيرة جدًّا)) أهـ
وعلَّق بشار عوّاد على كلامه هذا بقوله: ((كان من عادة المؤلفين في كل العصور: إعادة النظر في الكتب التي يؤلفونها، فكانوا يعيدون نشرها كلما تقدم الزمن بهم إذا وجدوا لذلك ضرورة. وقد قام مؤرخ بغداد ابن النجار مثلاً بنشر كتابه أكثر من مرة وظل يضيف عليه إلى قريب وفاته. وأعاد الذهبي النظر في كتابه العظيم (تاريخ الإسلام) غير مرة واضطر إلى إعادة نسخ بعض مجلداته وتغيير اعدادها لكثرة ما أضاف من مادة بعد انتهاء تأليف الكتاب لاسيما في المئة الثانية، بل غَيَّر عنوان الكتاب بعد الانتهاء من تأليفه حيث كان (تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام) فجعل الكلمة الثانية (وفيات) بدلاً من (طبقات) (انظر كتابنا: الذهبي: 25 فما بعد ومقدمتنا للقسم الأول من المجلد الثاني عشر الذي حققناه ونشرناه بالقاهرة سنة 1977). ولدينا من معجم شيوخ الذهبي الكبير نسختان نُقِلت الأولى عن نسخة المؤلف المكتوبة سنة 728 هـ وقد تضمّنت 1278 ترجمة وظل عدد التراجم ثابتًا إلى سنة 738 (أحمد الثالث: 462)، أما النسخة الثانية، فقد قُرئت على المؤلف سنة 745 وهي ثمثل آخر نشرة له، فقد أشار الذهبي على من سمع عليه الكتاب آنذاك بإسقاط جماعة من المكتوبين على حواشي الأصل من أصحاب ابن البخاري فلم يكتبهم الناسخ في هذه النسخة المقروءة عليه، فنقص لأجل ذلك عدد التراجم قرابة المئتين وخمسين ترجمة (نسخة دار الكتب المصرية، رقم 65 مصطلح الحديث). فمثل هذا الأمر يحتاج إلى دراسة لاعتماد المادة التاريخية التي ارتضاها المؤلف، والأمثلة على ذلك كثيرة)) أهـ
فمثل هذا السبيل العملي: يُتيح للمؤلفين والمحققين تحسين أعمالهم، وتجويدها، كما يترك المجال رحبًا للأمة المسلمة للاستفادة من عقول وخبرات أعمدتها العلمية، وأركانها التحقيقية.
وأعوذ بالله أن يكون في أمتنا من يحول بين المحقق أو الأمة وبين ما وصفتُ.
¥