ولا يصعب على القارئ أن يقف على بعض الأمثلة مما تحت يده من كتبٍ فجَّة، تبلغ من فجاجتِها أَنْ تَخْرج من ((فَجٍّ)) بالفتحِ إلى ((فِجٍّ)) بالكسر (الفَجّ بالفتح غير الفِجّ بالكسر، ومعناهما معروفٌ عند العربِ، وانظر مادة (فجج) من كتب لغة العرب ومعاجمها).
وبهذا الكفاية. والحمد لله رب العالمين.
ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[16 - 11 - 04, 03:13 ص]ـ
قواعدُ النَّقْدِ والقراءةِ النَّقْدِيَّةِ
النَّقْدُ فَنٌّ له ضوابطه وقواعده التي تُسَيِّره وتوجِّه خطواته، وقد عرفَ أسلافُنا هذه القواعد قبل غيرهم؛ غيرَ أن أوروبا الكافرة لعنها الله قد سرقت مِن أجدادِنا هذه القواعد، وأخذتْ بهذا المنهج الرصين، ثم جاءت إلينا على حينِ غفلةٍ مِنَّا فقالت: هلُمَّ أُعَلِّمكم أصول النقد، وضوابط القراءة النقدية للكتبِ والأبحاث.
وقد خُدِع بعضُ الأكابر في هذه الأمة بتلك الدعاوى الأوروبية الخاوية، ووقعوا فريسةً لهذا التزوير والتغرير الماكر، خاصةً مع ضعف كثيرٍ من النُّقَّاد عن ربط نقدهم برابط المنهج البحثيّ القائم على مقدِّمات ونتائج، تبعًا لدَرْسٍ وبحثٍ قويٍّ متينٍ، يتناول كافة الجوانب والقضايا في مادَّة النقد.
وأغلب الذين تصدَّروا مجالات النقد والقراءة النقدية: لا يعرفون شيئًا عن النقد أو القراءة النقدية، وغالب أمرهم ((التهويش والتحريش)) ببعض الألفاظ المحفوظة أو المقتبسة من صحيفةٍ باليةٍ، أو مادةٍ لغوية شاذَّة المبنى والمعنى، لا تستقيم في ميزان العروبة ولا يعرفها العرب بحالٍ.
ولعلك لو طالعتَ كثيرًا مما يكتب باسم النقد أو القراءة النقدية: لا تشم رائحة المنهج البَحْثِيِّ القائم على مقدماتٍ تأخذ بك إلى نهاياتٍ، وتُبْنى أُخْرياته على أولياتِه، في الوقت الذي ترى عبثًا يزكم الأنف، ويعمي البصر النافذ بالعمى والنَّكْسة؛ إما لما تراه في سياق النقد من ((هوس العبارة مع خلل المنهج)) أو ما تلحظه على شخصية الناقد من ضعف الْمُكْنَة وقصور الْمَلَكة، التي تختفي خلف سيلٍ من الإطراء حينًا، والسباب أحيانًا، وربما أخفى الناقد شخصيةً منكوسة، خلف أوراقٍ معكوسة، وطَرَّزَ لك نقدَه بتحريفات وتدليسات إن لم يقع في كذبٍ وتزوير مقصودٍ!!
وترى الواحد منهم يزعم لك القراءة النقدية فيما لا يصل إليه فِكْرُه، ولا يحتمله وزنه وحجمه، فيتصدَّى لما لا يعرفه أو يُحسنه، ثم نراه بعد ذلك إما يكتب اسم المجني عليه بالخطِّ الصغير استهزاءً به، أو يأتي إلى الخطأ الظاهر الواضح فيقدِّمه بالثناء على المشكو في حَقِّه ونعته بأتم الأوصاف وأكملها؛ إمعانًا في السخرية والاستهزاء من ناحية، وتشويشًا على الرجل من ناحيةٍ أخرى، فتخرج من المبحث النقدي وقد تَشَبَّعَتْ نفسُكَ بغضًا وكراهية وغضبًا على هذا المسكين الذي تناولتُه يدُ الجزار بالذَّبْح والسَّلخ!!
وهنا تتدخل الطاقة الأوروبية الماكرة وتقول لك: انظر إلى هذا وقارنه بما لديَّ من منهجٍ نقديٍّ قائم على أصول وضوابط، فينخدع بذلك أُناس، وتلين لهم أعناق!
غير أن أهل العلم والفضل، وأُولى النُّهى من الأمة المسلمة يعلمون علم اليقين أننا أصحاب المنهج، وأصحاب الرّيادة في هذا المجال كغيره من المجالات الحياتية التي سبقنا فيها غَيْرَنا، لكن سُرِقَتْ أعمال الأمة في عصور اختلال الإيمان واحتلال الأرض.
نعم؛ نحن أصحاب المنهج، والمنهج لنا وحدنا، نحن وضعناه في قرونٍ سابقة، وعبر أجيالٍ متتابعةٍ، وجاء غَيْرُنا فسرقَ بعضه، ولم يستطع سرقته بكامله؛ لأنه لم يفهمه بتمامه.
وإنما يفهم منهجنا من كان مِنَّا!
ومع هذا فقد ترك بعض قومنا أصول النقد وضوابطه، بل لم يُكلِّفوا أنفسَهم عناء العناية ببعض أبجدياته؛ ومنها:
تحرير مناط النقد، وإبراز أصول منهج الناقد ومجريات أحداثه، ليُبْنَى عليه ما بعده من فصول ومباحث، حتى يستقر القرار مع النتائج والنهايات البحثية.
أقول فَعَمَدَ بعضُ قومِنا إلى إطراء عملٍ أو تشويه آخر تحت مُسمَّى النقد والقراءة النقدية، وهذا في عُرْف النَّقَدَة قصورٌ شديد، وخواءٌ لا يتجاوز بحالٍ ((رصّ الألفاظ)) بالسَّلب أو الإطراء؛ لأننا لم نَرَ أو نسمع عن مقدمةِ نقدٍ أو أصل، فضلاً عن نتيجة ونهاية، وإنما هي أمور مرسلة حسبما اتفق، وكيف وقعت، لا يربط بينها رابط، ولا تعرف لها ضابطًا أو زمامًا؛ اللهم إلا وحدة الناقد والمجني عليه.
ومن هنا كانت أكثر المقالات النقدية لا تتجاوز كونها مدحًا وإطراءً لأعمال قومٍ، أو الذم لآخرين.
وإنما يفعل هذا: ((عَجَزَةُ العِلْم والفكر)).
وسأضرب لذلك أمثلةً في وقتٍ لاحقٍ إن شاء الله تعالى بما يُجَلِّي حقيقة المسألة ويوضِّحها بتطبيقاتِها العملية.
والمراد هنا الإشارة إلى رأس الموضوع، ويُكْمَل بَعْدُ إن شاء الله.
لكن تجدر الإشارة هنا إلى دِقَّة أسلافنا في اختياراتهم وتعبيراتهم، فحين أراد ابنُ أبي حاتمٍ أن يضع كتابًا في أخطاء البخاري قال: ((بيان أخطاء محمد بن إسماعيل البخاري)) وَبَيَّنَ محل الأخطاء ولم يترك الأمر مبهمًا فحصره في التاريخ الكبير؛ لأن الغاية عنده لم تكن حب الشهرة على حساب البخاري وإنما كانت أمرًا خالصًا لصالح الإسلام.
وحين أراد البيهقي أن يرد على بعض من خالف الشافعي قال: ((خطأ من أخطأ على الشافعي)).
وأمثلة ذلك مما يطول جدًّا، فلنترك ذلك لحينهِ.
كما تجدر الإشارة هنا أيضًا على عيب استعمال لفظ ((النَّقْد)) ومشتقَّاتِه لدى المخلصين الصادقين من نَصَحَةِ المسلمين وطلبة عِلْمهم، وقد أشرتُ في موضوع ((فِقْه النَّقْد)) إلى عِلَّةِ هذا العيب، بما يغني عن التكرار هنا.
وبهذا القدر الكفاية الآن. والحمد لله ربِّ العالمين.
¥