وهذا المعنى المذكور قد يكون صالحًا أو ضروريًّا في بعض المصالح المرسلة؛ لكنَّه مرفوضٌ تمامًا في ((دنيا العقوبات والإلزامات))؛ لأنَّ العقوبات والإلزامات على أنواعٍ، فمنها ما تُسْقِطه التوبةُ، ومنها ما لا يسقطُ بالتَّقَادمِ ومرور الزمان؛ فليستْ إذًا على وتيرةٍ واحدة، والتفصيل هنا لابد منه.
وهذا التَّعَامُل بالأَثَرِ الرَّجْعِيِّ في المؤاخذةِ بما تُسْقِطه التوبةُ: قد نفاهُ الشَّرْعُ حين عامل الناس بجديدِ أمرِهم، ولم يقف معهم على قديمهم، فمن عصى الله عز وجل ثم تاب وأناب، وأقلع عن ذنبه بشروط التوبة المعروفة: فقد رأينا الشرع يقرر أن ((التوبةَ تهدمُ ما قبلها)) يعني: أنها تمحو ما قبلها من الآثام والذنوب بشروطها المعروفة بين أهل العلم.
وبهذه التوبة والإنابة يرجع الإنسان إلى سابق طهارته ونظافته، ولم يكن لأحدٍ أن يُعَيِّرَهُ بذنبه القديم، أو يديم التِّذْكِرَة له بما أَسْلَفَهُ من آثام.
بل لو أسلم الكافر: لم يكن لأحدٍ من الناس أن يُلْحِقَ به مَعَرَّةَ الكفر السابق مدى الحياة، فيُذَكِّره بها كلما سنحتْ له الفرصة، أو بدا له ذلك، فضلاً أن يُذَكِّر الناس بهذه الْمَعَرَّة.
وتستوي في ذلك: تسمية الْمُذْنبِ أو التَّعْريض به، خاصة إذا كان ذنبه مشهورًا معروفًا.
كما تستوي الذنوب في ذلك مع الأقوال والمذاهب المخالفة للصواب إذا رجع عنها صاحبها؛ لأنَّهُ لا فرق بين هذه وتلك من حيث بطلان المؤاخذة بها؛ للرجوع عنها.
وما رجع صاحبه عنه وأناب منه: لم يكن لأحدٍ مُؤَاخَذَته به، مهما كان؛ لأنه وما لم يكن سيان.
وهذا الذي ذَكَرْتُه هو بعينه: منهج مُتَقّدِّمي النَّقَدَة، وسابقي الأئمةِ في تعاملهم مع الناس عامة، والرواة خاصة.
فلم يعرف الأئمة الأوائل هذه التَّسْوِيَة العجيبة بين سابق حياة الناس وحاضرِها ولاحقها.
ومن هنا: قرَّر الأئمة رحمهم الله قبولَ مرويَّات جماعة المختلطين في زمان صحَّتِهم، وردّها في زمان اختلاطهم.
فلم تُتْرك جُملتها، ولم تُؤْخَذ بكلِّ ما فيها، وإنما مَيَّزَ الأئمة بين الطيب والخبيث، فأخذوا الأول، وردّوا الثاني، بناءً على منهجٍ علميٍّ واضح المعالم، قائم على الإنصاف والدّيانة، حَرَّرَ واضعوه مناطَ النَّقْدِ وغايته، ورصدوا طُرُقَه وأساليبه، فلم تطْغَ طريقٌ على طريقٍ، ولا اختلطَ أسلوبٌ بآخر، كما لم يخرج نقدهم عن غايته الموضوع لها من ضرورة حفظ الدين، وتوصيل السنة لمن بعدهم صافية عن كدَر الأوهام والموضوعات.
بل وصلَ الأمر إلى أبْعَد من ذلك: فقبلوا بعض الرواة على مدار حياتهم في أمرٍ، وردّوهم في آخر، ولم يَرَ الأئمة رحمهم الله التَّلازم بين قبولهم في هذا أو ردّهم في ذاك.
ومن أمثلة هؤلاء: الواقدي والْحِمَّانِي وغيرهما ممن ضعَّفَهم الأئمة في الحديث، واعترفوا بسعة حفظهم في غيره.
وهذا هو ميزان العدل الذي قامت به السماوات والأرض.
غير أن بعضَ قومِنا وأهل عصرنا قد رفض هذا الميزان عمليًّا وإن أقرَّ به نظريًّا.
فرأينا من آخذَ الناسَ بما سبق لهم من ذنوب، وعَيَّرَهم بها، بل وصول الأمر إلى حَدِّ تسمية بعض الذنوب، ومن نظر في كلام بعض من أَلَّفَ عن ((معنى الإيمان عند الشيخ الألباني رحمه الله)): رأى من هذا الضرب العجب.
وآخرون رجعوا عن أقوال ومذاهب: فأمسكَ الناسُ بذيولهم، ورفضوا الرجوع أو الإقلاع.
وأُسَمِّي من هؤلاء: الشيخ الفاضل أبو إسحاق الحويني حفظه الله، حيث أطلق قديمًا عبارته الشهيرة: ((ما هكذا تُعَلَّل الأحاديث يا ابن المديني)) فتلقَّفَها الناسُ، وانتقدوه في إطلاقها نقدًا عظيمًا، جُدِّعَ فيه للشيخ حفظه الله، وبغض النظر عن صحّة هذا من عدمه إلا أن بعض الناس لا زال يحتج على الشيخ بكلامه، ويعرض به هنا وهناك، وربما أطال لسانه في الشيخ، رغم اشتهار الخبر برجوع الشيخ حفظه الله عن هذا القول من سنين عددًا.
ففي مثل هذا: يقف المرءُ حائرًا، يضرب كفًّا بآخر، يسألُ نفسَه: هل عاد النقد على الشيخ بأثرٍ رجعيٍّ؟
أم أن قواعد الديانة التي فهمها هؤلاء هي التي تقرر عقوبة الراجع عن الخطأ، حتى بعد رجوعه؟
ومثل هذا السائل إن لم يجد له مجيبًا من نفسه، أو هاديًا من غيرها: فربما جَرَّتْه حيرته إلى أمرٍ نأْباهُ له.
فما الذي دفع بعض قومنا إلى معاملة الناس ومؤاخذتهم بأثرٍ رجعيٍّ، حتى وإن أظهر الرجل رجوعه عما كان منه؟
هل الذي دفع بعض قومنا إلى ذلك: هو عدم الفهم والوعي؟ أم عدم الدقة في تحرير مناط النقد وغايته؟ أم هي شهوة النقد؟ أم ...
ربما لو جلسنا الزمان الطويل ما استطعنا الحصول على إجابة شافية في هذا المجال؛ غير أن مما لاشك فيه أن مثل هذا السلوك المشين مرفوضٌ جملة وتفصيلاً.
لأن من قواعد الشريعة أن التوبة أو الرجوع عن الخطأ: يهدم ما سبق من آثام أو أخطاء، ويُعيد المرء إلى سابق عهده من براءة الذِّمّة، وصفاء السَّرِيرة.
وإلى هذا الحدّ أقف لضيق الوقت، وفيما مضى كفاية للدلالة على المراد؛ والله الموفق.
¥