ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[16 - 11 - 04, 03:26 ص]ـ
أثر التَّشابه بين الخطأ والصواب في الرسم
يُعدّ التشابه في رسم الخطأ والصواب من أعْقَد الأمور، ولا يكاد يقف عليه إلا الأفذاذ.
ومع هذا فالخطأ في مثله مما يُحْتَمل من صاحبه؛ للاشتباه المشار إليه.
ولذا احتملوا أخطاء مثل شعبة الإمام رحمة الله عليه في أسماء الرواة، ولم يسقط شعبة بأخطائه، ولا نزلتْ منزلته بما جرى له.
بل ولم يُشَنَّع عليه ويُهَوَّل به في مثل هذا؛ لأنَّه مما لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصمهم الله عز وجل؛ للاشتباه فيه بين الخطأ والصواب.
وتتجسَّد قضيتنا مشروحة واضحة في هذا السياق البديع الذي رصدَهُ لنا البرذعيُّ حين قال في (سؤالاته لأبي زرعة الرازي رحمه الله تعالى) (2/ 326 – أبو زرعة وجهوده للهاشمي): ((وشهدتُ أبا زرعة ذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه، وأطنبَ في مَدْحِه، وقال: وهم في غير شيء، قال: عن شهاب بن شريفة، وإنما هو: شهاب بن شُرْنُفة. وقال: عن سماك عن عبد الله بن ظالم، وإنما هو: مالك بن ظالم. وقال: عن هشام عن الحجاج عن عائد بن بطة، وإنما هو: ابن نضلة عن عليٍّ في الحدود. وقال: عن قيس بن جبير، وإنما هو: قيس بن حبتر .. )) أهـ
فأنت ترى ما ذكره أبو زرعة رحمة الله عليه من أوهام ابن مهدي في مثل هذه الحروف المتشابهة في الرسم، عدا ((عبد الله بن ظالم)) و ((مالك بن ظالم)).
ومع هذا فهذا المثال قد يكون مما اختلف فيه قول ابن مهدي مع أبي زرعة، فقد اختلف الناس في الصواب فيه، وصوَّب الفلاس الوجهين: ((عبد الله)) و ((مالك))، وقيل: بل هو ((مالك بن عبد الله بن ظالم)).
فهذا مما اختلف الناس فيه، فيخرج عن صراطنا الذي قصدنا له من بيان الأخطاء الناتجة عن تشابه الرسم.
ومع اعتراف أبي زرعة رحمة الله عليه بخطإِ ابن مهدي في هذه الأمثلة المذكورة، وتغييره: ((حبتر)) إلى ((جبير)) و ((نضلة)) إلى ((بطة)) و ((شرنفة)) إلى ((شريفة))؛ إلا أن أبا زرعة رحمة الله عليه قد مدح ابن مهدي، بل وأطنب في مدحه رحمه الله.
وهذا هو ميزان العدل والإنصاف الذي قرَّره أبو زرعة رحمه الله بعد كلمات من كلامه السابق حيث يقول في نفس الكتاب (2/ 329): ((كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه، كل من كان بينه وبين إنسانٍ حقد أو بلاء يجوز أن يذكره؟! كان الثوري ومالك يتكلمون في الشيوخ على الدين فنفذ قولهم، ومن يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه)) أهـ
[ووقع في المطبوع من الكتاب المذكور: ((ومن لم يتكلم فيهم على غير الديانة)) بزيادة ((لم)) ولا وجه لها في السياق؛ فلتُرْفَع منه].
ولو وقف بعض العصريين على مثل هذه الأخطاء لمحققٍ أو مؤلفٍ من العصريين لهوَّلَ به تهويلاً تشيب منه الولدان، وربما رماه بالجهل، أو فقدان آلة التحقيق ... ولأخرج له محفوظات العمر من أسياف النَّقْد وعبارات التثبيط.
بل ربما يتمنَّى المحقق نفسه من هول ما يراه أمانيَّ على وتيرة: ليت أمّه لم تلده، وليته لم يضع سوداء في بيضاء، ونحو هذه الأماني الدالة على شدّة ((لسعة الثعبان))!!
ولن يعدم ((أستاذ التثبيط)) من أمثلةٍ مُعِينة له في طريقه، من قول فلان، أو فعل علان.
ولستُ أرى مبررًا للاستدلال بالشاذِّ عن أصل الصراط النَّقديّ القويم لدى الأئمة، والقائم أساسًا على اعتراف الناقد بعلم المنقود وحقّه.
بل نرى في واقع الرواة من أهْدَرَ الأئمة رواياتهم، وضعّفوا أقوالهم، ولم يمنعهم هذا من الوفاء لهؤلاء المهدرة رواياتهم بما يملكونه من علمٍ أو خبرة.
ولذا رأينا الأئمة قالوا في غير واحدٍ: ((حافظ، وحديثه ضعيف))، أو ((إمام في المغازي، ضعيف في الحديث)) ونحو هذا السياق.
فهذا هو السبيل النقدي القويم الذي أسَّسَهُ أئمة الإسلام، وعُمَّار دار الحديث في عصورنا الزّاهرة.
ودعنا نُعيد النظر في كلام أبي زرعة الرازي رحمه الله عن ابن مهدي، ونتدبّر السياق لنرى: قال كذا، وصوابه كذا.
يقول أبو زرعة هذا بعيدًا عن ابن مهدي، حتى ربما خَفِيَ على القارئ إذا نظر آخر كلام أبي زرعة قبل أوله: عَمَّن يتكلم أبو زرعة رحمه الله.
بخلاف نقد العصريين القائم أساسًا على ((شخص المنقود)) على وتيرة: ((لو خَرَّجَ! لو أَتْعَبَ نفسَه! لو تَدبَّر! لو أعطى لنفسِه فرصةَ تملُّك الآلة! لو .. لو ... )) إلخ.
¥