لكننا لو نظرنا في كلام أبي زرعة لرأيناه قد حصره في ((قال كذا ... وإنما هو كذا)).
فإذا تركنا نقدَ أبي زرعة لابن مهدي وذهبنا لنقدِه لتاريخ البخاري لرأينا في مطلع كتاب ((خطأ محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه)) لابن أبي حاتم: ((سمعت أبي يقول: قال أبو زرعة رضي الله عنهم: حمل إليَّ الفضل بن العباس المعروف بالصائغ كتابَ التاريخ ذكر أنه كتبه من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري فوجدتُ فيه: (1) محمد بن إبراهيم بن سليمان بن سمرة، وإنما هو: محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب)).
وظل أبو زرعة على هذا النهج حتى آخر الكتاب، وعلَّق أبو حاتم الرازي على كلام أبي زرعة رحمه الله في مواطن بقوله: ((وهو كما قال))، وفي أخرى – على قِلَّتِها -: ((أخطأ البخاري)).
لم يزد أبو حاتمٍ على ذلك شيئًا من الكلام عن شخص البخاري وآلته وإتقانه لحرفته من عدمه.
ومع هذا فقد بَرَّأَهُ من الخطأ في مواضع، وخالف أبا زرعة في قوله في بعض هذا وحَمَّلَه أبو حاتمٍ رحمه الله للكاتبِ.
وكما أطلق ((أخطأ)) في حقِّ البخاري، فقد أطلق ((أصاب)) أيضًا؛ وبهذا يقوم ميزان الإنصاف والعدل، ومن أمثلة ذلك في الكتاب المذكور (33) من كلام أبي زرعة: ((إبراهيم أبو زرعة وكان من مسلمة أهل الكتاب، وإنما هو: زرعة أبو إبراهيم)). فهذا كلام البخاري وتعقُّب أبي زرعة عليه، فجاء أبو حاتمٍ رحمه الله فخالف أبا زرعة وقال: ((هو صحيح، أصاب البخاري، ولإبراهيم ابنٌ يقال له: زرعة)).
وما رأيت اسم البخاري رحمه الله في هذا الكتاب الموضوع في انتقاده ورصد أخطائه في كتابه إلا في نحو ستّ مواطن فقط، حسب نظرٍ سريعٍ في الكتاب المذكور.
الأول: اسم الكتاب وغلافه الخارجي ((بيان خطأ محمد بن إسماعيل البخاري)).
والثاني: في صدر الكتاب حين قال أبو زرعة: ((حمل إليَّ الفضل بن العباس المعروف بالصائغ كتاب التاريخ ذكر أنه كتبه من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري فوجدت فيه)).
والثالث: ((34 – إبراهيم بن عمر بن أبان روى عنه .. إنما يروى عنه أبو معشر البراء. سمعت أبي يقول: أخطأ فيه البخاري، هو كما قال)).
والرابع: ((37 – إبراهيم بن نسطاس .... وابن المبارك يقول: إبراهيم بن نشيط، حدثنا عنه غير واحد. سمعت أبي يقول: هو كما قال. أخطأ البخاري)).
فالمثال الأول والثاني هما: عنوان الكتاب ومقدمته.
وأما الثالث والرابع: فقد بَيَّن الشيخ المعلمي رحمه الله أن الأمر في التاريخ للبخاري على الصواب، فهو من اختلاف نسخ التاريخ الكبير أو أخطاء الناسخ عن التاريخ، وليس من البخاري.
وأما الخامس والسادس: فقال فيهما أبو حاتم: ((أصاب البخاري)).
ولم أَرَ من خلال النظرة السريعة المشار إليها غير هذه المواضع السِّتّة التي ورد فيها اسم البخاري في كتابٍ موضوعٍ في نقده، ولو لم يكن عنوان الكتاب ومقدمته لما انتبه أحدٌ إلى البخاري، ولا ظنّ أنه المراد بالنقد!!
مع أن الكتاب في نقده، وبيان الأخطاء الواقعة في كتابه!!
فانظر سبيل هؤلاء الذين رفع الله ذِكْرهم، وجعل لهم لسان صِدْقٍ في الآخرين؟!!
لكنك تعلم ما جَرَّهُ مغلطاي على نفسِه بكلامه في المزي والذهبي وغيرهما من مشايخه وأقرانه!
مع أنك تَعْتَرف بعِلْم مغلطاي؛ لكنّها سنة الله الماضية التي ترفع أهل الأدب والإنصاف وإن لم يكن لهم نصيب الأسد علمًا ومعرفةً، وتخفض من أطال لسانه في أهل السنة وإن كان من أهل الدراية والمعرفة التامَّة!
وقد صدق أبو زرعة الرازي رحمه الله حين نَبَّه إلى ضرورة الديانة للكلام في مثل هذا الشأن، ومَثَّل بمالكٍ والثوري، وكيف نفذ كلامهما، لقيامه على أساس من الدين والإخلاص.
فقد نفذ كلام أبي زرعة وأبي حاتم أيضًا، ولم يضر البخاري نقد الرازيين له.
لكنَّا نعلم يقينًا أن أحدًا من العصريين لا يقوم أبدًا إذا ما تعرَّض له بعض أهل الزمان بالنقدِ؛ لأنه سيجتهد في هدمِه بكل ما أُوتِي مِن سحر البيان، بغض النظر عن منزلة الناقد والمنقود في الدين، فهذا آخر ما قد يلوح في ذهن بعض نَقَدَة الزمان؛ للأسف.
نضع عَوْدَنَا على بَدْإِنَا: فنعود إلى قضية التشابه في الرسم وأثره في الخطأ وتقويم الأخطاء.
¥