وقد ظهر جليًّا مما ذكره أبو زرعة الرازي رحمه الله فيما سبق أن الخطأ في مثل هذه الحروف المتشابهة في الرسم واردٌ لا لوم فيه، على من أخطأ في الأمثلة القليلة بالنِّسْبَة لما رواه، بخلاف الفاحش الخطأ المكثر منه، فهذا له شأن آخر عند الأئمة.
لكن خطأ ابن مهدي في المتشابه رسمًا مثل قلب: ((جبير)) إلى ((حبتر)) وغير ذلك من الأمثلة السابقة: فهذا مما لا يُسْقط شخصًا ولا يجرّ التهويل عليه إلا إذا أكثر منه فصار أصله وديدنه، وأضحى صوابه شاذًا نادرًا في تصرُّفاته وأقواله.
وقُلْ مثل هذا في نحو: ((سُمَيْر)) و ((شمير))، وكذا في المثال المشهور وهو قلب ((خيبر)) إلى ((حنين)) والعكس، فأنت ترى تشابه اللفظتين في الرسم، بحيث لو سقطت مدّة النون الأخيرة من ((حنين)) لأشبهت ((خيبر))، خاصة وأن أكثر الأصول الخطية القديمة لا تشتمل على نقطٍ.
فأنت ترى الفارق بينهما حينئذٍ هو المدة الأخيرة من النون في ((حنين)).
فإذا وضعنا في أذهاننا شهرة الغزوتين: ((خيبر)) و ((حنين)) في تاريخ المسلمين، بحيث لا يستشكل العقل السياق إذا تبدّلت إحداهما بالأخرى، وكذا تشابه الكلمتين في الرسم على ما مضى.
فإذا نظرنا في هذا كله: أمكننا فهم المسألة فهمًا صحيحًا، وحَمْل الأمور على وجهها الصحيح اللائق بها، وظهر لنا حينئذٍ جواز وقوع الخطأ في مثل هذا، بعيدًا عن التهويل والتشنيع، وقد وقع التبديل بين الكلمتين المذكورتين في كثير من المصادر، وكنتُ قد وقفتُ على أمثلةٍ في هذا لعلّي أُلْحِقها بهذا المبحث إن شاء الله تعالى وفَسَحَ لي الزمان بذلك.
لكن لو أصرَّ المخطئ على قوله، وكابر في تصويبه: كان أمرًا شنيعًا لا لشكل الخطأ ولكن لمكابرته ورفضه الانصياع.
ونحن نعلم أن أئمة الحديث قد أهدروا رواةً كابروا عن تصويبات الأئمة، ورفضوا الإذعان لتصحيحاتهم.
وإنما يكون التشنيع إذا كان الخطأ الواقع يملك الأسباب والمؤثِّرات المانعة من وقوعه؛ في نحو: الخطأ بين ((إسماعيل)) و ((عبد الرحمن)) فهذا ليس من ذاك بسبيل، فيُستبشع الخطأ بينهما، بخلاف المتشابه رسمًا، فيجوز الخطأ فيه، بلا غضاضة، إلا أن يكثر من الرجل فيسقط.
ومع هذا فقد كان الخطيب البغدادي رحمه الله من الذين يطلقون وصف (الفاحش) على الخطأ في متشابه الرسم نحو: ((عبد الملك بن قرير)) فقال يحيى بن معين: ((إنما هو ابن قريب الأصمعي. قال الخطيب: غلط ابن معين في ذلك القول غلطًا ظاهرًا وأخطأ خطأ فاحشًا)) (الميزان للذهبي).
وهذا السلوك لا يُوافق عليه الخطيب رحمه الله، وربما استشفعنا له في هذا المثال بقوله: ((غلطًا ظاهرًا))، فظهور الخطأ هو الذي جرّه لقسوة العبارة، وإلا فالصراط الأتم، والطريق الأقوم المشهور بين أئمة الإسلام: هو الأدب الجميل في اللفظ والعبارة أثناء النّقد، وقد مضى سياق عبارات أبي حاتم وأبي زرعة رضي الله عنهما، وهو المعتمد.
ومن أمثلة ما يمكن ذِكْره هنا: حديث يرويه أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جدّه مرفوعًا: ((ما نَحَلَ والدٌ ولدَهُ نُحْلاً أفضلَ من أدبٍ حسَنٍ)).
والحديث معروف في ((المسند)) لأحمد في مواضع منها (14977)، و ((سنن الترمذي)) (1952)، وغيرهما.
و (سعيد) قريبة في الرسم والشبه من (شعيب)، و (عن) و (بن) يكثر التبديل والتحريف بينهما، فلو صارت (بن عمرو) التي هنا: (عن عمرو) لصار الخبر من رواية: أيوب بن موسى (عن) عمرو بن سعيد عن أبيه عن جدّه.
لكننا نعلم رسم الإسناد المشهور: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.
ولم يعد الفرق بينه وبين الإسناد الذي عندنا بعد تحريف (بن) إلى (عن) إلا في (سعيد) و (شعيب)، وهذه إن لم يقلبها القلم فسيقلبها الذهن على الفور إلى (شعيب) ليخرج الحديث من مسندٍ إلى آخر.
وإنما أوقع الراوي في هذا: التشابه في رسم الإسنادين، خاصة بعد التحريف، مع شهرة الإسناد الجديد في الكتب.
بل ربما زاد بعضهم ضبط الإسناد الجديد في (زحمة) تتابع الروايات، ولم ينتبه إلى ما جرى فيه من تحريف.
وفي زماننا: ربما وضع المحقق الكتاب كله ليُضْبَط بواسطة الحاسوب بطريقةٍ برمجيَّةٍ أو بأخرى، ليرى هذا التحريف بعد ذلك مضبوطًا فلا ينتبه لما آل إليه الحال، خاصة مع شهرة الإسناد الجديد أيضًا.
فلا ينبهه هنا إلى ما وقع إلا إعادة البحث والدّرس والمذاكرة.
¥