ولو كان في زماننا أحمد أو ابن معين أو البخاري ونحو هؤلاء الأئمة الكرام رضوان الله عليهم لرأينا على الفور: (هذا لا يجيء) (هذا مقلوب) ونحو ذلك من العبارات الدالة على سريان الخلل في الإسناد الذي معنا.
لكنَّا لا نملك هؤلاء الآن، مع اعترافنا أيضًا بميل الملابسات التي معنا إلى كفَّة التحريف، أكثر من ميلها إلى بيان الصواب وإظهاره.
وبناءً على هذا قد يقع الخطأ، وينبغي فيه: الإنكار على قدر هذا الذي ظهر من ملابسات الموضوع، لا على قدر النتيجة التي آل إليها الأمر؛ لأن النتيجة لابد وأن تكون مقلوبة في كل الأحوال.
ومن نظر في تصرفات أئمة الدين الأمناء على الأمة رأى هذا السلوك باديًا في كلامهم بوضوح.
ولنذهب إلى الإمام المزي ونرى طريقته كيف كانت؟
ففي المجلد السابع من كتابه ((تهذيب الكمال)) صفحة 210 – 211 نرى في حاشيته مانصه: ((عَلَّقَ المؤلِّف – [يعني: المزي رحمه الله] – في حاشية نسخته متعقبًا صاحب (الكمال) فقال: (ذكر في الرواة عنه عبد الملك بن مسلم، وإنما يروي عن عمران بن ظبيان عنه. وقال بعض من استدرك عليه: وروى أبو داود لأبي تِحْيَى في باب إسباغ الوضوء، وهو وهمٌ نشأَ عن تصحيفٍ، إنما ذلك أبو يحيى مِصْدَع الأعرج)) انتهى.
فانظر يرحمك الله كيف صوَّبَ المزي الخطأ لصاحب الكمال بقوله: كان فيه .. وإنما .... لا أكثر، وصوَّب خطأ البعض الآخر بقوله: وقال بعض ... وهو وهمٌ نشأ عن تصحيف إنما ذلك ....
لم يذكر لنا المزي مَنْ هذا البعض، ولم يتعرَّض له المزي؛ وإنما وصف الخطأ بكونه وهمًا نشأ عن تصحيفٍ، وسارع بتصويبه، لم يزد على ذلك شيئًا من التجريح والتجديع، ولا طالَبَ بالْحَجر على هذا المخطئ، ولا استنفر الهمم نحو التفتيش خلف هذا الجاني الخائن لأمانة البحث والتحقيق، المتسلِّق لجدار العلم لِيُسَوِّقَ نفسَه ... إلى آخر ما قد يقوله غير المزّي لو تشابه الخطأ وتغيَّرت الأشخاص!!
ومن الجدير بالذكر هنا:
أن الكلام في الميت كالكلام في الحي تمامًا، والنَّقْد في غياب الشخص كالنَّقْد في حضْرَتِه ولا فرق، فما يمكن قوله في حضوره هو الذي يقال في غيبته دون مزايدات أو مهاترات.
ونحن نقطع أن لو كان ابن معين حيًّا ما تجرأ الخطيب البغدادي يرحمه الله على أن يصفه بفُحْشِ الخطأ في وجهه.
ولذا نقول: إن ما يمكن أن يقال في المشاهدة والحضور هو الذي ينبغي أن يقال في الغياب بنصِّه دون زيادةٍ أو تحوير.
ونقطع أن الشريعة قد أمرتْ باللين والرفق مع المخالف؛ فدلّ ذلك على ضرورة اللين والرّفق، وهو بأهل العلم أولى وآكد.
فمن خالف هذا الصراط فنحن نقطع بمخالفَتِه صراطَ الديانة، وقاعدة الشريعة؛ ولا ينفعه بعد ذلك أن يعتذر بصنيع الدنيا وسلوكها كلها؛ لأنه لا قيمة لدنيا تخالف قاعدةً شرعيةً أصيلةً.
وكنتُ قد تكلمت على النصوص الواردة في الشدة لبعض الناس في غير هذا المحل، وبينتُ هناك أنها مناسبة لأصحابها وأشباههم مِمَّن يستحق الوصف بها أو ببعضها، ولا يجوز تنزيلها على غيرهم أو مَن لا يشاركهم في نحو صفاتهم.
فحين يقول النبي صَلَّى الله عليه وسلم لرجل: (بئس أخو العشيرة) فلا نحتج بهذا الحديث في جواز الشدّة مع المخالف؛ لأمور:
أن المخالف ربما لم يكن (بئس أخو العشيرة) فلا يقاس على المذكور.
أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال ذلك في حال غيبة الرجل، وعدم عِلْمه، ولم يُسَمَّ الرجل في الحديث؛ فدلَّ ذلك على جواز الطعن في بعض الناس مع عدم تسميتهم، فخرج الحديث عن المحل الذي نحن فيه من هذه الوجهة أيضًا.
وينبغي أن يُعْلم أن قاعدة الشريعة: هي تحرير الصواب لا أكثر، فلا نُعْنَى بغير الصواب والحقّ بغض النظر عن الشخص والرسم؛ وإنما ضاع الناس يوم قدَّسَ الناسُ أشخاصَهُم.
نعودُ إلى قضية التشابه في الرسم وأثرها:
¥