ومن هنا يظهر لك السرّ في تلك الانتصارات الباهرة التي حقَّقَها ابن تيمية يرحمه الله على مخالفي السنة والحديث، كما يظهر لك موطن الداء ومصدر الخلل في مسيراتنا وطرقنا العصريَّة.
ونحن نقطع أن جميعَ هذه المعاني المذكورة: تُهَذِّب النَّفْس وتدربها على الإخلاص لله، وهذا بعينه ما نبحث عنه في جميع مقالاتنا، بل في جميع دروبنا الحياتيَّة.
وهذه المعاني الإسلامية السَّامية: تحصر النقد في ((دائرة الإصلاح)) أو ((التصحيح والتقويم)) التي شرحتُها قبل هذا في موضوع ((فِقْه النقد))، وذكرتُ هناك رائعةَ ابن ماكولا رحمه الله التي سطّرها يراعه في مقدمة كتابه ((تهذيب مستمر الأوهام)) حين قال: ((وتركتُ أغلاطًا للخطيب رحمه الله في تراجم أبوابٍ حكاها عن الشيخين وهِمَ عليهما أو على أحدِهما فيها، ورتَّبها على غير ما رَتَّبَاه؛ تركًا للمضايقة؛ ولأن ذلك مما لا يضر طالب العلم جهله ولا تنفعه استفادته، ويعلم الله تعالى أن قصدي فيه تبصير المسترشد، وإرشاد الحائر، وتيسير الطرق على حافظي شريعة الإسلام، وتقريب البعيد على ناقلي سنن الأحكام، وهو بقدرته ولطفه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنه جوادٌ كريم رؤوف رحيم)) انتهى.
فقد لَخَّصَ لنا ابنُ ماكولا رحمه الله ما أردناه، من ضرورة الحرص على النافع المفيد من أمور النقد والتنبيه على الأخطاء.
ولاشك أن الحرص على مثل هذا اللون من النقد: يشي بنفسٍ متجرِّدة، بخلاف ((التهويل والتهليل)) الذي يُؤْذن بشخصية مريضةٍ، لا تعرف للإخلاص سبيلاً، ولا تهتدي إلى حقٍّ أو طريقٍ.
لكنَّا نترك هذا كله، ونأتي إلى مقصودنا من بيان ((التتابع وأثره في النقد)).
ومرادنا من ذلك: إصدار التصحيحات والتصويبات على حلقاتٍ متتابعةٍ، يلحق بعضها بركاب بعضٍ، على مُدَدٍ متفاوتةٍ: يومية أو أسبوعية أو شهرية، أو حسبما اتَّفَقْ.
وهذا التتابع المقيت لم يكن معروفًا عند أسلافنا، وإنما لجأ إليه بعض أهل عصرنا أخذًا ((بالنسك الأعجمي)) البعيد تمامًا عن روح الإخلاص، ودائرة النصيحة والإنصاف.
ونحن نقطع بأثر هذا التتابع على هدم المتكلَّمِ في حقِّه، وإزالته من على ((ساحة الكلم والكلمة)) بقصدٍ أو بجهلٍ من النقَّاد الهيثمي العظيم (في لسان العرب لابن منظور: هثم: هَثَمَ الشيءَ يَهْثِمه: دَقَّه حتى انْسَحَقَ. و هَثَم له من مالِه: كما تقول قَثَمَ؛ حكاه ابن الأَعرابي. وقال ابن الأَعرابي: الهُثُم القِيزانُ المُنْهالة. و الهَيْثَم: الصَّقْر، وقيل: فَرْخ النَّسْر، وقيل: هو فرخ العُقاب، ومنه سمي الرجل هَيْثَمًا).
وهذا السنن الأعجمي الخبيث في هدم الأشخاص: لم يعرفه أسلافُنا؛ لأن الله قد كَرَّم أشخاص المسلمين، وأهان أشخاص وأعيان الكفر.
وبناءً على هذا: كان الأصل العام المتوارث لدى أسلافنا: إخراج النقد والتصويبات جملةً واحدةً، ولا يمنع ذلك من إعادة النظر في هذا الْمُخْرَج، والزيادة والنقصان فيه على عادة البشر التي ذكرتُها في مقالٍ بعنوان: ((حين تصبح الكارثة أصلاً في التحقيق)).
لكن المراد هنا: إخراج النقد كله جملةً واحدة، ثم النظر بعد ذلك في مفردات النقد، وفروعه، والزيادة فيه والنقصان حسب مستجدَّات المعارف، ومعارف الأحوال.
وهذا شأْنٌ بعيدٌ كل البُعْدِ عن ((النسك الأعجمي)) القائم على ((مَطِّ الكلام)) أو ((تضخيم المسائل))، ربما بإعادة بعض الفقرات، أو تكرار بعض المقالات برمَّتِها دون حذفٍ أو إضافة.
ولهم شأنٌ آخر يسلكه جماعة من كَتَبَة العجم في عصرنا: فيكتبُ حلقاته النقدية في صحيفةٍ أو مجلة، ثم يتحدَّثُ عن تلك الحلقات في ((قناة مرئيَّة))، ويفتح بعض جوانب المسألة في عنوانٍ بعيدٍ ثانٍ وثالث ... وهلم جرا.
وهذه الجولات الجانبية الخبيثة تأتي في إطار ((منظومةٍ دعائية)) عن الموضوع الأم الخاص بلحقات النقد لفلان أو علان من الناس.
وللعجم في هذا ((أفانين)) كثيرة؛ لا عجب منها؛ لأنه لا قيمة ولا كرامة لشخصٍ عندهم أو مبدأ.
وارجع البصر كرَّتَيْن: وعُدَّ عظماء العجم في تاريخهم الطويل، وقارن أعداد هؤلاء المعروفين منهم بأعداد ما يعرفه المسلمون في عصرٍ واحدٍ فقط، وستجد البون شاسعًا جدًا بين الفريقين، وإنما نشأ ذلك لهدم العجم كلَّ رأسٍ ظهرتْ لهم، وتحطيم أصحاب العلم عندهم.
وحروبهم مع دافنشي وديكارت وغيرهما معلومة مشهورة للكافة، وقد اشتهر فيهم إعدام المفكرين على مدار الزمان، ونحن هنا لا ندافع عن مفكريهم؛ فلعنة الله على من مات منهم، والكفر كله ملة واحدة، وإنما المراد تورُّطهم في قَتْلِ مفكِّريهم، ونِسْبَة هذه السُّنَّة لهم.
والحق أن مثل هذا السلوك ليس مستغربًا من قتَلَة الأنبياء وأعداء الله ورُسُلِه؛ لكنه مما يُؤْسَفُ له وبحقٍّ أن ينخدع بهم بعض بني جلدتنا، الذين يترسمون رسم العلم، مع خواء الفِكْر، وقلَّة المعرفة بخطط الأعداء ومكرهم.
وقد انكشف السِّتر فرأينا خططًا معلنة للقضاء على الإسلام، وهدم المسلمين، تقوم على طُرُقٍ أهمها في نظري: أكثرها طرحًا وشهرةً لدى واضعيها من كفار الغرب والشرق تحت عنوانهم الشهير: ((تحطيم الرؤوس)) أو ((ضرب الرؤوس)) أو ((قتل الرمز)) وغير ذلك من العبارات ذوات المعنى الواحد مع اختلاف المبنى.
ومما يُؤْسَف له وبحقٍّ أن نجد من بين بني جلدتنا من يبرِّر لنفسِه مثل هذا السلوك الأعجمي الغريب عن ديارِنا، ونحن نقطع بخطر ما يكتبه بني جلدتنا في هذا السبيل؛ لأنه هدم من داخلنا، لتصبح ((حصوننا مهددة من داخلها)) على حدّ ترجمة كتاب الشيخ الأديب محمد محمد حسين يرحمه الله.
وبناءً على ذلك: فنحن نهيب بإخواننا الطيبين الذين يكتبون بقلم السنة، وتحت مظلة الحديث: نهيب بهم أن لا يغتروا بمثل هذه السلوكيَّات الأعجمية التي تفشَّت في ديارنا وأقلامنا، وأن يضع كلٌّ منهم ما يراه من تصويبات وتصحيحات على أعمال الآخرين دفعة واحدة، وله أن ينظر في ذلك بَعْدُ بالتصحيح والتنقيح؛ لكنه لا يصح بحالٍ أن يكون ذيلاً لمكرٍ أعجميٍّ فاجرٍ بالأمة المسلمة.
اللهم قد بلغتُ. اللهم فاشهد.
وبهذا الكفاية. والحمد لله ربِّ العالمين.
¥