ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[16 - 11 - 04, 03:30 ص]ـ
الاختلاف بين المحقق والراوي
قرأتُ يومًا مقالةً لبعض العصريين لا أذكر متى ولا أين؟ غير أني أذكر فحواها وما اشتملتْ عليه، حيث طالب المشار إليه بالتَّسْوِيَة في التعامل بين المحققين للكتب في هذا الزَّمان، وبين الرواة للأحاديث النبوية في زمن الرواية.
فعجبتُ جدًا من هذا الكلام الدالِّ على جهلٍ أو هوًى في قائله، ولم تسمح لي الحال يومئذ بالردِّ أو الكتابة، ثم توالتِ الأيامُ حتى الآن، فرأيتُ أن أكتبَ فيه شيئًا قصيرًا يفي بالمطلوب إن شاء الله.
فأقول وبالله التوفيق:
الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره كما قال أسلافُنا العظام، وهذا يعني أن حُكمنا في هذا الموضوع فرعٌ تابعٌ لتصوُّر الموضوع، والوقوف على حقيقته.
ولنبدأ القصة من أولها: حيثُ كان الاعتماد على الحفظ لا الكتاب، وكانت الأحاديث لم تُدَوَّن بعدُ في بطون الكتب، وإِنْ دُوِّنَتْ في صحائف الرواة، وسار الأمرُ على هذا الحال حتى بدأَ التدوين، بصورتِه المعروفة لنا، فصنَّفَ ابنُ جُرَيْج وغيره من أهل الحديث تصانيفهم المشهورة، فلمَّا استقرَّت الأحاديث في بطون الكتب، وانقضت مرحلة الرواية: صار اعتماد الناس بعد ذلك على الكتب لا الرواة، وتوسَّع الناس في السماع من بعض من لا يحفظ كتابه، بل ولا يُحْسِن قراءة ما فيه، بل ولا يعرف ما يُقْرَأ عليه؛ بشرط أن تكون القراءة عليهم من أصلِ سماعهم.
وبناءً على ذلك بدأتْ عناية الناس بالكلام عن حفظ الكتب.
وقال أهلُ العلم كلمتهم المشهورة: ((فمن جاء اليوم بحديثٍ لا يوجد في بطون جوامع الإسلام: لا يُقْبل منه)).
وهذا قد فصَّلَه الحاكم والبيهقي وغيرهما.
وأطال ابنُ الصلاح في شرحه في مقدِّمَتِه المعروفة في ((علم الحديث)).
وقال السخاوي في ((فتح المغيث)) (2/ 108): ((وهو الذي استقرَّ عليه العمل)).
وشرح ذلك الشيخ أحمد شاكر يرحمه الله وقال في كلامه من ((الباعث)) (1/ 321): ((الشروط السابقة في عدالة الراوي إنما تُرَاعى بالدقة في المتقدمين، وأما المتأخرون بعد سنة ثلاثمائة تقريبًا: فيكفي أن يكونَ الراوي مسلمًا بالغًا عاقلاً، غيرَ متظاهرٍ بفسقٍ أو بما يُخِلُّ بمروءته، وأن يكونَ سماعَه ثابتًا بخطِّ ثقةٍ غيرِ متهم وبروايةٍ من أصل صحيحٍ موافق شيخَه؛ لأن المقصودَ: بقاءُ سلسلة الإسناد، وإلا فإنَّ الروايات استقرَّتْ في الكتب المعروفة، وصارتْ الروايةُ في الحقيقةِ روايةً للكتبِ فقط)).
وقد رصدَ الذهبيُّ وغيره ترخُّصات المتأخرين في هذا الباب وغيره من أبواب علوم الحديث، ونصَّ غيرُ واحدٍ على عدم اعتبار الشروط الواجب توافرها في الرواة على أهل الأعصار المتأخرة.
وعبارة ابن الصلاح في ذلك أثناء كلامه على ((صفة من تقبل روايته)): ((أعرضَ الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينَّا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيَّدوا بها في رواياتهم لتعذُّر الوفاء بذلك)) إلى أن قال: ((فليُعْتَبَر من الشروط المذكورة ما يليقُ بهذا الغرض على تجرُّدِه، وليُكْتَفَ في أهلية الشيخ بكونه مسلمًا بالغًا عاقلاً، غيرَ متظاهرٍ بالفسقِ والسخف)) إلى آخره.
والحقُّ أنني أعجز عن الكلام في مثلِ هذا؛ لظهوره جدًّا، بحيث تُغْني شهرته عن الكلام في مثله؛ لكني سأضرب هنا مثالاً واحدًا يفي بالغرض إن شاء الله.
فأقول: اتفقت أقوالُ كثيرٍ مِنْ ((سَبَقَةِ)) أهلِ العلمِ في قضية إعفاء اللحية على فِسْق حالقِها، وردّ شهادته.
فهل يطالبنا ((لُكَعٌ)) الجاهل بشريعتنا: أن نرد كافة شهادات وأقوال جماهير المسلمين الذين تخلفوا عن إعفاء لحاهم؛ فنُضَيِّع البلاد والعباد؟ فسبحان من صَبَّر الأرضَ على جهلٍ مثل هذا.
وأقطع أن قائل هذا الكلام لم يسمع شيئًا عن العلم، ولعله لهذا لم يثبت اسمه في ذاكرة مثلي من طلبة العلم، فنصفعه بقول إسلافنا العظام: لا يُؤَخَذ العلم إلا عن الثقات المشاهير المعروفين بالطلب، ولو كنتَ ممن قال فيهم أسلافنا: ((مجهول وحديثه يدل على الصدق)) لأخذنا بقولك، لكننا لمسنا في كلامك تزويرًا وقلْبًا للحقيقة، فَنَرُدُّك وكلامَكَ في آنٍ واحدٍ؛ لنكارة لفظك مع جهالتك.
والحقُّ أننا نعيش محنةً من مِحَن الجهل العظيمة، فالكل تحوَّل إلى مُحَدِّثين، وحُفَّاظ، وأمراء للمؤمنين في الحديث، وإذا أخرجت يدك لم تكد تراها.
كل من قرأ صفحةً في منظومة البيقوني، أو رأى بعينه ملزمةً من صحيح البخاري؛ أصبح شيخًا، ومحدثًا للبر والبحر وما وراء الجبال.
وأصبحت الألقابُ في أيامنا، أرخص من أصحابها، فهذا هو العلاَّمة فلان، وذاك هو الفهامة علان، و ((الطابور)) يُصَفِّق، فإذا رفعتَ الستار: فسترى تحت الغطاء جيفةً، أو نصف إنسانٍ.
حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، وصفهم أشرف الخلق r ، فقال:
((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً، يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وعندما يصبح الأمر والنهي والرئاسة لخلفاء الجهل، وأئمة العمى، حين يصفِّقُ ((الطابور)) لأول صوتٍ، حتى لو خرج من غرابٍ: فلا تتعجب أن يخرج مثل هذا الكلام المقلوب رأسًا ومعنًى، المضادِّ لقرونٍ وقرونٍ، توالت فيها أجيال، بعد أجيال، أطبقتْ جميعها على الجهل بهذا ((الزُّور))، حتى جاء هذا الجاهل، المبدع في جهلِه فعرف ما لم يعرفوه، وأَتَى بما لم تَأْتِ به القرون الطويلة!!
وبهذا الكفاية. والحمد لله ربِّ العالمين.
¥