تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن هنا تظهر لك تلك العبقرية النقدية لأمثال أبي حاتمٍ الرازي رحمة الله عليه حين يسبر أحاديث رجلٍ لا يعرفه، ولم يسمع عن حاله وشخصه شيئًا ثم يُقَرِّر من خلال سَبْرِه هذا نتيجةً نصها: ((مجهول، وحديثه صحيح)) ((لا يُعْرَف، وحديثه يدل على الصدق)) ((لا أعرفه، وحديثه يدل على الكذب))، ونحو هذه الإطلاقات الاعتبارية القائمة على سَبْرٍ وسهرٍ طويلٍ.

فلسنا مِمَّن يتعَلَّقُ بأشخاصٍ مهما كانت مكانتهم، ولا وزن عندنا لشخصٍ إلا بعمله، فأقربنا أتقانا، وأحبّنا إلى الله أتقانا وأصحّنا عملاً وإخلاصًا، نوالي من ظهر من عمله الولاء لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحبّ مَنْ أحبَّ الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مهما كان حقيرًا في نظر الناس، ومهما كان لونه أو حجمه الدنيوي، لكنَّنا نقطع بمعاداه من بارز الدين العداء مهما كانت مكانته الدنيوية والمالية.

إِننا أصحاب فِكْرٍ وعملٍ لا طُلَّاب دنيا ومنصب، نعرف الناس من أعمالهم، ولا نعرف الأعمال من أشخاصهم.

وانظر إلى الحبيب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يُصحِّح أخطاء بعضهم فيقول: ((ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا))، ولا يذكر شيئًا عن هؤلاء الأقوام، ولا يُعَرّفنا بهم أحدُ أصحابه، وتمر السنون، ويبقى تصحيح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بينما يموت الأقوام دون معرفة بهم، أو دراية بأحوالهم.

فالميزان الحقيقي عندنا: هو صحة القول والعمل وموافقته للشرع بغضِّ النظر عن معرفتنا لحال الشخص، ومكانته الدنيوية.

وعلى الفور نقول: كلُّ نقدٍ شُمَّتْ منه رائحة الجنة وطُرُقِهَا: فهو حقٌّ بغضِّ النظر عن شخص الناقدِ أو الْمُتَكَلَّم في حقِّه، كما أَنَّ كلَّ نقدٍ قام على كِبْرٍ أو عداوةٍ أو غيرهما من ((مستلزمات الطريق النَّارِيِّ)): فهو باطلٌ وزورٌ وإِنْ بلغ بصاحبه عنان السماء، أو نزل بالْمُتَكَلَّمِ في حَقِّهِ أسفل سافلين.

فمَنْ أَخَلَصَ في نقدِه وظهر إخلاصُه على سطورِه: قلنا له أحسنتَ وأخذنا بكلامه، ومَنْ أَظْهَرَ لنا غيرَ ذلك: صفعْنَاهُ بنقدِه قائلين له: اخسأْ عدوّ الدين وعدوّ نفسِه.

وسيلةُ النَّقْدِ

يقول العربُ في أَمثالِهِم: النَّقْدُ عند الحَافِرَةِ؛ أي عندَ أوَّل كَلِمةٍ؛ والحَافِرَةُ أوَّلُ الأَمْرِ، وهيَ مأخوذةٌ مِن قَولِ اللّه عزَّ وجلَّ: {أئِنَّا لَمرْدُودُونَ في الحَافِرَة}؛ أي: في أوَّلِ أمرِنا.

ويقول أهلُ الزمان: ((الانطباعات الأولى تدوم)).

وبناءً على هذا حَرَصَتْ صُحُفُ الناس ومجلاتهم على صناعة الموضوعات من خلال ((صياغة العنوان)) أو ((المانْشِيْت)) على حَدِّ تعبيراتهم الصحفية، ويُعَدُّ هذا ((المانْشِيْت)) هو ((الطَّلْقَةُ الأولى)) التي تأتي ببنيان المجني عليه إلى القواعد، فيخرّ السقفُ من فوقِه، وتكمن قيمة الموضوعات الصحفية في مدى الدَّوِيِّ الذي يُحْدِثه هذا ((المانْشِيْت)).

ومما يُؤْسَف له وبحقٍّ أنْ تدلف (تدخل) إلى ما وراء هذا ((المانْشِيْت)) فلا ترى شيئًا؛ اللهم إلا آثار إنسانٍ، أو نصفَ إنسانٍ، يسبح في تيه النَّفسِ، ويحيط نفسَه بهالة الدّراية التامّة، فيخدعك ثانيةً ببريقه الزَّائف، وأنت الطيب القلب، فتلين له، وتستمرّ مع قصَّتِه التي لا تُسْتَساغ على حَدِّ قولِ العامة في ديارنا: ((خلينا ورا الكَدَّاب لِحَدِّ باب الدار))، وحينئذٍ تصدمك مفاجأة ((هشاشة)) النَّاقدِ، وسوء الوسيلة، وعَفَن القِصَّة مع قِصَرِها.

أما علماء الإسلام الأصحاء الأطهار أسْعدَ الله دنياهم وأُخراهم بكل جميل وحَسَنٍ؛ فقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وفي عبارة بعضهم: الوسائل لها أحكام الغايات.

ومعنى كلامهم في هذا الباب: أنَّ المقصد الشرعي السليم يحتاج إلى وسيلةٍ تُنَاسِبه في الشَّرْعِيَّة والسَّلامةِ، وهما من جنس المتلازمين اللذين لا يفترقان أبدًا على حَدِّ تعبيرات المناطقة التي يجوز لنا استعارتها منهم.

فلا يصح المقصد حتى تصح الوسيلة، ولا تصح الوسيلة حتى يصح المقصد، فَمَن خَلَّفَ إحدى هاتين المتلازمتين: خَلَّفْنَاهُ مع يهود الذين قالوا: الغاية تُبَرِّر الوسيلة، أو القبوريين الذين استخدموا وسائل الجنَّة في الوصول إلى النار؛ كدعاء الأموات، وقد أُمِروا أن يُشركوا بكلِّ أحدٍ إلا الله عز وجل، فأَبَوا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير