فهذان صِنْفَان من الناس افترقتْ وسائلهم عن مقاصدهم؛ فخابَ سعيهم.
وكذا النَّقْد الشرعي الصحيح المقصد: لابد له من وسيلةٍ شرعيَّة صحيحة.
ولنبحث في وسائل الشرع الصحيحة في نقدِ وتقويم الناس، أو الأعمال، فسنرى طائفة كبيرة من الآيات والأحاديث الآمرة باللين في التصحيح والتقويم كأصلٍ عامٍّ، يخرج عنه بعض الفروع عند الحاجة لذلك.
فأما أصل المسلمين وقاعدتهم: فهو اللين مع الناس والرّفق بهم، بل حتى أنبياء الله عز وجل قد أمرهم الله عز وجل باللين في دعوتهم.
ونحن نقطع بضرورة اللين والرفق في قضية الإصلاح وانصياع المخطئ للنصيحة، بخلاف الشدّة والغلظة التي من شأنها أن تولّد النّفْرة، وتمنع من قبول النصيحة، فضلاً عن حجب الخير عن المسلمين، وتقطيع صلاتهم العلمية والعملية، بما يتبع هذه العملية من أضرار على حياة الأمة المسلمة.
ولك أن تتصور عشرة أشخاص مثلاً، قد شدَّدَ خمسةٌ منهم على خمسةٍ، وأوجعوهم بسهام الْكَلِم. فكذا يكون حال المسلمين إذا صار فينا مَنْ لا يعرف طريقًا سوى الشدّة والغلظة.
ونحن نعلم أن الشدّة والغلظة من الأمور التي يطبع الله الناس عليها، ونعلم أن الشخصيات أرزاق كالولد والمال لا دخل للإنسان في اختيار شخصيته؛ لكنَّا نقطع أيضًا بأَنَّ العلمَ بالتعلًُّمِ والحلم بالتحلُّمِ.
والصفات على نوعين: جبلي، ومكتسب، ومسائل اللين والرفق ونحو ذلك مما يصح اكتسابها بالتمرين والتمرس، وقد كان عمر بن الخطّاب شديدًا ثم لان بالإسلام.
والكلام في اللين له ذيوله الطويلة؛ لكني أكتفي فيه بما ذُكِرَ، وأُجْمِل تسمية بعض الوسائل الصحيحة في النَّقْد كالتالي:
- الصدق: وهذا في نظري من أهم الصفات التي لا غنى عنها للمسلم عامة، ولطالب العلم والناقد خاصة، ويؤسفني أن أعترف بتقصير أكثر الناس في هذا الجانب.
ونحن بطبيعة الحال: نُصدِّق الصادقَ ونُكَذِّب الكاذبَ.
- مسئولية الكلمة وأمانتها.
- الإخلاص والتجرُّد، ومن علاماته: الرجوع إلى الحق متى ظهر له، وعدم أَنَفَة الناقد من توجيه النصيحة له، وترك التهويل بما لا يصح التهويل به، مما لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل به.
وانظر رائعةَ ابن ماكولا رحمه الله تعالى التي سطّرها يراعه في مقدمة كتابه ((تهذيب مستمر الأوهام)) حين قال: ((وتركتُ أغلاطًا للخطيب رحمه الله في تراجم أبوابٍ حكاها عن الشيخين وهِمَ عليهما أو على أحدِهما فيها، ورتَّبها على غير ما رَتَّبَاه؛ تركًا للمضايقة؛ ولأن ذلك مما لا يضر طالب العلم جهله ولا تنفعه استفادته، ويعلم الله تعالى أن قصدي فيه تبصير المسترشد، وإرشاد الحائر، وتيسير الطرق على حافظي شريعة الإسلام، وتقريب البعيد على ناقلي سنن الأحكام، وهو بقدرته ولطفه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنه جوادٌ كريم رؤوف رحيم)) انتهى.
- الحرص على الإصلاح، وحب النصيحة للنفس والغير .... إلخ.
مصطلح النَّقْد
الناصح الأمين الحريص على الإصلاح والخير لنفسِه وغيره: هو ذلك الرجل الصادق في لهجته، عذب الحديث، حُلْو المنطق، وهذا كله ينافي استعمال عبارات العيب والذم والحطّ على الطَّرَف الآخر.
فإذا اتفقتَ معي في هذا: فاعلم أن مصطلح النَّقْد هو بمعنى العيب، ويُرْوَى: ((مَنْ نَقَدَ الناسَ نَقَدُوه))؛ أي: من عاب الناس عابوه (ذكره ابنُ الأثير في النهاية حديثًا، ولم أتحقق منه، والمراد لي هنا معنى اللفظ).
فهذا معنى النَّقْد عند ((متقدِّمي الْمَعْنِيين)) بلغة العرب، وأساليبهم.
(لكنهم استخدموا رسم اللفظ في أماكن أخرى من أمور الزكاة وغيرها، وليس هذا مما نحن فيه).
ولذا كان على الناصح الأمين بحقٍّ أن يتجاوز مثل هذا اللفظ والمعنى إلى غيره من ألفاظ العربية الدالَّة على تواضعٍ وتودُّدٍ وإخلاصٍ وتجرُّدٍ، فهذا آكد في قبول النُّصْحِ واستجابة المنصوح.
ومن هنا تُدْرك السِّر في إعراض علماء الإسلام عن تسمية كتبهم بالنقد أو مشتقاته؛ نعم وُجِدَ في فروعهم ما أسموه بالنقد، لكن كم؟ وعمن؟
أما كم؟ فلا أكاد أعرف في تاريخ المسلمين ممَّا استخدموا فيه لفظ النَّقْد سوى نحو الخمسة، من بين ملايين الكتب والمصنفات.
أما عَمَّنْ؟ فلا أعرف أحدًا منهم صَنَّفَ كتابًا ردَّ به على بعض أهل السنة والحديث، واستخدم فيه هذا اللفظ المعيب الذي أكثر منه أهل زماننا، على عادتهم في مخالفة سنن المسلمين.
¥