فصارتْ عِلّة وجود هذا الفرع الثاني كالشَّرْط اللازم لتحقُّقِه ووجوده، فيتخلَّف المشروط بتخلُّفِ شَرْطِهِ، وهذا ظاهرٌ.
ويُعَدّ التبديل في مواضع النصوص، وتنزيل هذه في محل تلك: من الإلحاد في معاني النصوص، وإرغامًا لها على غير جهتها الموضوعة له.
لأنَّا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لينًا هيّنًا مع مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة الكرام، في الوقت الذي اشتَدَّتْ عبارةُ النبي صلى الله عليه وسلم عن آخرين أظهروا الإسلام وأبطنوا النفاق والكفر.
فهذان فريقان، لا يَحْسُن التسوية بينهما في ميراثٍ ولا معاملة، (والدين المعاملة).
فالأصل في الصالحين الأبرار: التودّد لهم، واللين معهم، والذّلة لأشخاصهم، في حضورهم وغيابهم.
كما أن الأصل في المنافقين: الغلظة والشدّة معهم في غيابهم، ومداراتهم في حضورهم بما لا يستفزّهم على المسلمين.
فالأول: يدخل في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلمًا) (من فرَّج عن مسلمٍ كربةً) (المسلم أخو المسلم) (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (وما كان الرفق في شيء إلا زانه) إلى آخر النصوص التي في هذا السبيل.
وأما الثاني الخبيث: فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (بئس أخو العشيرة) ونحوه من الأحاديث الزاجرة لأمثاله.
فالمستدلّ بأحاديث الثاني في مقام الأول: إما مُبَدِّل لمعاني النصوص، أو أنه يطعن في الأول دون علم ودراية.
لأنه إذا قال للمعروف بالسُّنّة مثلاً: (لما التشنج من النقد، والشدّة فيه، وقد نقد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل وقال له: بئس أخو العشيرة).
فهذا الكلام يحتمل معنيين: الأول: أن يكون القائل لم يفهم دلالات النصوص، فوضعها في غير موضعها، والثاني: أن يطعنَ القائلُ في المشكو في حَقِّهِ ويقرّر أنه (بئس أخو العشيرة)، فهو يتّهمه في الحقيقة.
ولاشك أن أكثر العاملين في مجال تحقيق الكتب: من ذوي الدين والخُلُق الرفيع، فينبغي معاملتهم على هذه الطريقة، وبناءً على هذا تُعْمَل فيهم نصوص القسم الأول الآمر بالرفق والإحسان.
بخلاف غيرهم ممن سرق وحرق وابتدعَ ولم يرتدع، فهذا بئس الأخ ولو جاء بألف كتاب محقق.
فعلينا التفريق حينئذ.
بل من سرق وحرق نقبله إذا علمنا أَوْبَتَه، وبانتْ لنا توبتَه، و (التوبة تجب ما قبلها).
لكن تجدر الإشارة إلى أن شدّة النَّقْد لا تعني قسوة العبارة الظاهرة؛ إِذْ يمكن للناقد أن يطلق سهمًا خارقًا من باطن لفظٍ بعيدٍ في الظاهر عن تيار الشّدّة.
وقد عُرِفَ في واقع الأئمة رضي الله عنهم: الجرح بالْحَيْدَةِ عن الجواب.
فيمكن الجرح ولو بالْحَيْدَة عن الجواب، بل ربما كان الصمت أشد أثرًا في الشدّة والجرح، والأمور تقدر بقدرها وتوزن بميزانها الصحيح شرعًا، القائم على إخلاص النقد لله، لا للعلم؛ لأنه لا عبرة بعلم لا يصل بنا إلى الله، وليس العلم إلهًا نتقدّم له بالقرابين، بل لو كانت الجنة في الجهل لاجتهدنا فيه؛ لكنَّا رأينا العلم أمرًا مطلوبًا شرعًا، مكرمًا في شريعتنا فبادرنا إليه طلبًا للجنة، وطمعًا في الفوز والنجاة، ونحن نعلم أن ممن تُسَعَّر بهم النار: عالم لم يعمل بعلمه، فلم ينفعه ما حواه من علوم، ولم تشفع له خبرته ولا حسن نظريّته وجودتها.
وهذا الفرق هو الذي أوقَع الكثير منا في الخلل النقدي؛ لأنه لم يقم على طلب الفوز والنجاة من الله، لكنه قام رغبة في نفع العلم؛ وما كان لله نفذ، وما كان للعلم يرجع على صاحبه بالخذلان.
فالإخلاص لله هو المطلوب الأصيل في كل الأمور. فاحرص عليه.
وأختم بقول الشاعر:
إِنَّ أخَاكَ الْحَقُّ مَنْ كانَ مَعَكَ
ومَنْ يضرُّ نفْسَهُ لينْفَعَكَ
ومَنْ إذا ريبُ الزّمانِ صَدَّعَكَ
شَتَّتَ فيكَ شَمْلَهُ ليَجْمَعَكَ
وبهذا الكفاية. والحمد لله ربِّ العالمين.
ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[16 - 11 - 04, 03:40 ص]ـ
أَخْطَاءُ الْحَاسُوب
سبق أن تحدَّثْتُ في كلامٍ سابقٍ عن موقف المحققين في زماننا من ((الحاسوب))، وذكرتُ اختلافهم في ذلك على طرقٍ ثلاثٍ.
ولقاء اليوم مع ((الحاسوب)) من زاوية أخرى، وجهةٍ لم تسبق في كلامي المشار إليه، وهي من الضرورات الملِحَّة في عصرنا؛ لأهميتِها.
¥