وقد أَلَّفَ الناسُ في فوائد الحاسوب، وأضراره بالنِّسْبة للعقل والإبداع الإنساني، غير أننا لا ننكر بحالٍ من الأحوال اعتماد الناس له في شتى المجالات ومجال التحقيق خاصة الذي نحن بصدده.
والناس في هذا على طُرُقٍ ثلاثٍ:
الأول: طائفة التراثيين:
الذين يعملون كما عَمِل أسلافهم، ويرفضون الاستفادة في العلم بما لم يكن على عهد سابقيهم، وهؤلاء على صنفين؛ أحدهما: يُنْكر الاعتماد على الحاسوب جملةً وتفصيلاً، ويرى في ذلك مضيعةً للوقتِ والجهد، وحجرًا على الإبداع العقلي للإنسان، والثاني: يتمنَّى لو تمكَّن من الاستفادة من الحاسوب، غير أن قطار عُمْره لم يُمَكِّن له شيئًا من هذا.
الثاني: أصحاب القديم والجديد.
وهؤلاء جماعة مِمَّن نشأَ وتربَّى في أحضان الكتب، وتَمَرَّسَ على المطبوع والمخطوط، قبل أن يظهر الحاسوب أصلاً، أو ربما لم يكترث به أول أَمْرِه تبعًا لمشايخ الطريق الأول الرافضين للاعتماد على الحاسوب أصلاً.
لكن سرعان ما أدخل هؤلاء الحاسوب إلى بيوتهم وأعْمالِهم، وكانت أعمارهم وأحوالهم تأذن لهم بتعلُّمِه، وربما التمرُّس فيه وإتقانه، وما لبثَ أنْ جَوَّدَ هؤلاء أعمالهم وحسَّنوها، بناءً على ما يملكونه من التراث القديم، مضافًا إلى هذا الجديد الوارد عبر الحاسوب، فجمعَتْ هذه الطائفة من المحقّقين بين ((القديم والجديد)) أو ((الأصالة والمعاصرة)) على حَدِّ تعبيرات الناس المشهورة في صُحُفِهِم.
ولذا كانت هذه الفئة من المحققين هم أسعد الناس حظًّا، وأوفرهم نصيبًا في الاستفادة من الحاسوب والموسوعات الإلكترونية، بِفَهْمٍ ودرايةٍ، وعلى عِلْمٍ بما يفعلونه.
فلم تعتمد هذه الفئة على الحاسوب اعتمادًا كُلِّيًّا، ولا هي أَهْدَرَتْه وأهْمَلَتْه جملةً وتفصيلاً كما هو حال غيرها من الطوائف؛ لكنها اعتبرت الحاسوب موسوعةً أخرى من موسوعات الفهارس الكاشفة عن مكنونات المطبوعات، أو من كتب الأطراف، فهو عندهم ((ذيل على موسوعة أطراف الحديث لسعيد زغلول)) على حَدِّ تعبير أكثر من فردٍ في هذه الطائفة.
والحقّ أن هذا المذهب هو أعدل المذاهب وأرجحها في نظري لما فيه من الجمع بين المطبوع والإلكتروني، والاستفادة من هذا وذاك، دون خلطٍ، فإن كان ثمة خطأ فهو من النادر، أو مما لابد منه بحُكْم البشريَّة، وليس ناتجًا عن مجرّد الاستفادة من الحاسوب أو غيره.
وإلى هذا الطريق ينتمي أكثر المحقّقين في هذه الآونة الأخيرة.
ويؤكِّد عدم ركون هؤلاء كُلِّيَّةً إلى الحاسوب: ما تراه في كتبهم من اختلاف بعض الطبعات عن تلك الطبعات الحاسوبية، أو الزيادة على الحصيلة الإلكترونية المشهورة في الناس، ونحو ذلك من الدلائل الدالة على عدم الرُّكون التام إلى الحاسوب.
وكان الدكتور حمزة بن عبد الله المليباري حفظه الله قد أخرج كتابًا في كيفية الاستفادة من هذه المادة الحاسوبية، لا يحضرني اسمه الآن، غير أنه قد شرح فيه شيئًا من التراجم الموجودة في بعض الموسوعات، وفَسَّر كيفية الاستفادة منها واستخدامها في علوم الحديث.
وهذا الصنيع دالٌّ على استخدامه للحاسوب مع عدم الركون أو الاعتماد عليه؛ وإنما الحاسوب عند هؤلاء شيئًا يُعينهم على التحسين والتجويد لأعمالهم؛ لما فيه من سرعةٍ في البحث ودلالة على الموطن المراد، وهنا يقف عَمَل الحاسوب عندهم، ولا يتجاوزه، ويقوم هؤلاء بعد ذلك بعملية النظر والبحث والترجيح.
وهذا كما أسلفتُ هو المذهب المختار عندي؛ لِجَمْعِه بين القديم والجديد.
ومَنْ نظر في بعض الإصدارت التي خرجت لهذه الفئة من المحققين: استطاع أن يرى تلك اللمسة الجماليَّة التي أضافها البحث والتفتيش في الحاسوب، مع الحرص على النظر والمراجعة.
الثالث: الجيل الجديد.
وهو جيلٌ نكد، غَيَّرَ وجه الأرض وخصبها بما أفرزَه من اعتماده على حاسوبٍ متهالكٍ، أو موسوعةٍ مخَرَّقة، لم يَرَ في حياته كتابًا، ولا زاحمَ العلماء بالرُّكَبِ؛ لكنه أبصر الحاسوب في صِغَرِه، فاحترفه في كِبَرِه، دون عِلمٍ أو دراية، وبلا أي مراجعة أو تمحيصٍ.
بل ربما زادَ بعضهم في الإغراب فنصَّ على اعتماد هذه الموسوعات الحاسوبية في تحقيق بعض الكتب.
والمشكلة لا تكمن في الاستفادة من الحاسوب فنحن ننادي بها؛ غيرَ أننا نرجو ممن يستفيد من الحاسوب أن يكون واعيًا بما يستفيد، عارفًا بما للحاسوب وما عليه.
¥