أما أن يبدأ الإنسان بالحاسوب: فلا وألف لا.
ولا نُصَحِّح لأحدٍ أن يطلب علمًا أو يكتب بحثًا اعتمادًا على الحاسوب دون دراية سابقة، ومعرفة تؤَهِّله من تطويع الحاسوب وموسوعاته كيف شاء.
وبهذا الكفاية. والحمد لله رب العالمين.
ـ[د. هشام عزمي]ــــــــ[16 - 11 - 04, 03:51 ص]ـ
التحقيق فنٌّ له أصوله وضوابطه، وهو من أشرف أعمال الناس وحِرَفِهِم، وقد كان ولا يزال عملاً من أعمال الأكابر عِلْمًا ودينًا، ولا ضَيْرَ عَلَيْه أَنْ دخل مجاله ما ليس منه، على عادة ما يلحق سائر الحرف من الداخل عليها.
وتكمن أهمية معرفة هذه المدارس، وشروطها، وطرائقها؛ من نواحي شتّى؛ أهمها: معرفة شرط كل محققٍ ومنهجه، وطريقته في العمل، وهذا نافعٌ جدًا، سواءٌ في القراءة له، أو في توجيه النقد لهذا المحقق، ومحاكمة أعماله.
حيث لا يجوز لدى العقلاء محاكمة الرجل بما لا يؤمن به أو لا يرى حُجّيّته، وهذا من مُسَلَّمَات أصول الدعوة، فضلاً عن النصِّ عليه في كتب الجدل والمناظرة، وشَرْحه وبيانه في كتب أصول الشريعة وقواعد الفقه والدين.
ولذا كان من اللازم للناقدِ أن يعرفَ مذهب وطريقة المحقق في عَمَلِه، حتى لا يتوجّه بنقدٍ إلى محلٍّ لا نقد فيه، أو يطيل في شرح ما لا فائدة له.
كذا تكمن أهمية معرفة مذهب المحقق ومدرسته لبيان ما يحصل بكلامه من الثقة والاطمئنان؛ وهكذا.
وتكفي هذه الإشارة لهذا الموضوع؛ إِذْ لم نقصد له هنا، وإنما قصدنا بيان مدارس التحقيق، وشأن الناس فيه.
وطرائق الناس في التحقيق على جهتين:
الأولى: ((المدرسة النصّيّة)) أو ((الْحَرْفِيَّة)) وسَمَّاها بعض المحققين: ((مدرسة المحافظين)):
وتقوم على قاعدة ((نشر الأصول الخطية كما هي))، والمحافظة على سياقها، وإثباتها كما وَرَدَتْ إلينا، بكل ما تحمله من صوابٍ وعدمه، وعدم التدخل في نصِّ الكتاب من قريب أو بعيد؛ اللهم إلا في علامات الترقيم، وضبط سياقات الكلام، ونحو ذلك من الأعمال التحسينية لا الحاجية، وفرقٌ بين الحاجيَّات والتحسينيات.
ومحل التنبيه على الأخطاء في هذه المدرسة: هو حاشية الكتاب.
الثانية: ((المدرسة الحرة)) أو ((التحررية)) وسمَّاها بعض المحققين: ((مدرسة الأحرار)):
واختلف أصحاب هذه المدرسة فيما بينهم على طائفتين:
إحداهما: تُبيح تغيير الخطأ وإصلاحه في جميع الكتب والأصول الخطية، مع التنبيه على ذلك في الحاشية.
والثانية: توافقها على هذا التغيير إذا لم يكن الكتاب بخطِّ مؤلِّفِه، أو أحد تلامذته المشهود لهم بالعلم والخبرة، والمعروفين باليقظة في النَّسْخِ والنَّقْلِ، لكنها توافق المدرسةَ الأولى في الحفاظِ على النص كما هو إذا كتبَهُ مؤلِّفُه أو أحدُ تلامذِته النُّجَبَاء.
ولكلِّ مدرسةٍ من هاتين: روَّادها، وطُلَّابها.
لكن تجدر الإشارة إلى قِلَّةِ إفرازات المدرسة الأولى، وعدم خطورتها على التراث، فهي الأسلم والأدق في نقل التراث، والمحافظة على موروثاتنا من أصول العلم، وصفحات الفنون.
تمامًا عكس ((مدرسة الأحرار)) التي أفرزتْ لنا ((الطابور الخامس في التحقيق))، والذي تكفَّل - لا كَثَّر الله منه- بإفساد التراث جملةً وتفصيلاً، من خلال التبديل والتغيير، بمجرَّد النّظر العابر، واعتمادًا على فهمٍ عقيم، وعِلْمٍ سقيم، أكثره مستمدٌّ من ((حاسوب متهالك)) أو ((خطبة وعظية مسجلة))، لسان حالهم يقول لأعداء الأمة: لا عليكم بعد اليوم فقد كفيناكم هدم تراث المسلمين وتغييره، تحت أسماء لامعة، ولافتات جذّابة، على وتيرة: ((التحقيق)) تارة، و ((التنقيح)) أخرى، ولو عَلِم الحنبليَّان: ابن الجوزي وابن عبد الهادي ما سيصل إليه حال اللفظتين المشار إليهما: لغيَّر الأول ((تحقيقَه)) واستغنى الثاني عن ((تنقيحِه))!!
ولو قال بعض هؤلاء: غيَّرْتُ ((خالد بن الخطاب)) إلى ((عمر بن الخطاب)) نظرًا لشهرته، واعتمادًا على ترجمته في كذا وكذا؛ لهان الخطب.
لكن الكارثة – بحقٍّ – في تغيير ((عمر بن الخطاب)) الظاهر الواضح الصريح إلى ((خلبوص بن كلبوص)) ونحو هذا من ((رموز الشُّغْل)) و ((أصول المهنة))، والتعليق عليه بما يشبه طلاسم السِّحْر، أو خزعبلات ((الأغاني)) للأصفهاني.
هذا في الوقت الذي ترى فيه أمثال القاضي الشرعي العلامة أحمد شاكر رحمه الله يجتهد في إثبات كل شاردة وواردة، ويشرح هذه، ويُفَسِّر تلك، رجاء الوقوف على خبرٍ من وراء هذه أو تلك.
بل ربما أثبت في صلب الكتاب أكثر من وجه للكلمة الواحدة، وهذا كثير جدًا في تصرفاته، ومن ذلك ما ذكره في تحقيقه الرائع لبعض سنن الترمذي (88): (لا يعرف له روايةٌ) فأثبت لفظة (يُعْرَفُ) (تُعْرَفُ) بالياء والتاء الفوقية والتحتية معًا نقلاً عن بعض النُّسَخِ الْخَطِّيَّةِ، وكتبها بالنقط من أعلى وأسفل في آن واحدٍ مع رسم الضبط، ولو استطعتُ أنا كتابتها لك هنا على الوجه الذي كتبه به لتعجبتَ مِن دِقَّتِه وجمالِ طريقتِه، وقد ذكرتُ لك صورته، ويمكنك مراجعته إن أردتَ ذلك.
بل وعلَّق الشيخ شاكر رحمه الله على ذلك ببيان وجوه الكلمة الأخرى بما يسرّ الناظرين، فرحمة الله عليه.
ولعلَّ مما يَحْسُن ذِكْره هنا: ضرورة أن يلبس القائم بتصحيح تراث المسلمين نفس لباس مؤلِّف الكتاب محل التصحيح، حتى يتسنَّى له إخراج الكتاب على صفةٍ قريبةٍ مما أراده مؤلِّفُه، بخلاف الناقد الذي من شأْنِه محاكمة المؤلِّفِ في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ، ومقارنة قضايا المؤلِّف واختياراته على قضايا غيره من الناس واختياراتهم، فهذا من شأْنه أن يلبس عباءةً مخالفةً لعباءة المؤلِّف حتى لا تميل به وحدةُ الشَّبَه إلى ناحية المؤلِّف، على حساب البحث والتحرير العِلْمِيِّ، وربما اجتمع التصحيح والنَّقْد في رجلٍ واحدٍ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأعدل الأقوال في هذا الباب: رأي المحافظين؛ فهو أضبط الأمور في المسألة، لكن لا يُنْكر على متحررٍ جادٍّ، أمين على التراث، إذا ظهرتْ أهليته، وشُمَّتْ جِدّيّته.
أما هؤلاء المنسوبين زورًا وبهتانًا للتحرُّر والتحقيق: فما أسهل أن ننقلَ لهم عبارةَ سيد قطب الشهيرة رحمة الله عليه: ((ألا مَنْ للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بَعْدُ إلا الأقزام)) أو نحو هذا.
وبهذا القدر الكفاية. والحمد لله رب العالمين.
¥