وقد ورد هذا المعنى كثيراً في النظم والنثر، وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة، وتقبله النفوس العلية.
وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال، قريبة الاضمحلال- فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلباً، وأعلى مكسباً، وأرفع مراداً، وأجل خطراً، وأعظم قدراً، وأعود نفعاً، وأتم فائدة.
وهي المطالب الدينية مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة، وأجلها وأكملها في حصول المقصود، وهو الخير الأخروي؛ فإن الله سبحانه قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته فقال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ] آل عمران:18.
وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم، فقال: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] فاطر:28.
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات، فقال: [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] المجادلة:11.
وأخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – "بأن العلماء ورثة الأنبياء".
وناهيك بهذه المزية الجليلة، والمنقبة النبيلة؛ فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب، وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة، ولا تساميه منقبة، ولا تقاربه مكرمة؛ فليس بعد ما يتصوره أهل الطبقة الأولى متصور؛ فإن نالوه على الوجه الذي تصوروه، فقد ظفروا من خير العاجلة والآجلة وشرف الدنيا والآخرة بما لا يظفر به إلا من صنع صنيعهم ونال نيلهم، وبلغ مبالغهم.
وإن اخترمهم دونه مخترم، وحال بينهم وبينه حائل فقد أعذروا، وليس على من طلب جسيماً، ورام أمراً عظيماً أن منعته عنه الموانع، وصرفته عنه الصوارف من بأس، وما أحسن ما قاله الشريف الرضي الموسوي:
لابد أن أركبها ii صعبةً وقاحة تحت علام ii وقاح
أُجْهِدها أو تنثني بالردى دون الذي أملت أو ii بالنجاح
إما فتى نال المنى ii فاشتفى أو بطل ذاق الردى فاستراح
وكنت في أيام الطلب وعصر الشباب قد نظمت قصيدة في هذا المعنى على هذا النمط، أذكر منها الآن أبياتاً هي:
قد أتعب السير رحالي ii وقد آن لها بعد الوحى أن تُراح
فما يهاب العتْبَ مَنْ فاز مِنْ غايةِ أمنيَّته بالنجاح
سعى فلما ظفرت ii بالمنى يمينُه ألقى العصا واستراح
ص180 - 182
15 - وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدّره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له؛ فلا القعود يصده، ولا السعي وإتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله.
وهذا معلوم من الشرع قد توافقت عليه صرائح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.
وإذا كان الأمر هكذا فما أحق هذا النوع العاقل من الحيوان الذي دارت رحى التكليف عليه، ونيطت أسباب الخير والشر به - أن يشتغل بطلب ما أمره الله بطلبه، وتحصيل ما خلقه الله لتحصيله، وهو الامتثال لما أمره به من طاعته، والانتهاء عما نهاه عنه من معاصيه.
ومن أعظم ما يريده الله منه ويقربه إليه ويفوز به عنده: أن يشغل نفسه، ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده ونزلت به ملائكته. ص184 - 185
16 - وإن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في هذا المعنى؛ فمن تعكَّست عليه بعض أموره من طلبة العلم، أو أكْدَتْ عليه مطالبه، وتضايقت مقاصده - فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبعدم إخلاصه عوقب، أو أنه أصيب بشيء من ذلك محنة له وابتلاء واختباراً؛ لينظر كيف صبره واحتماله، ثم يفيض عليه بعد ذلك من خزائن الخير ومخازن العطايا في ما لم يكن بحسبان، ولا يبلغ إليه تصور؛ فليعض على العلم بناجذه، ويشد عليه يده، ويشرح به صدره؛ فإنه لا محالة واصل إلى المنزل الذي ذكرنا، نائل للمرتبة التي بيّنا. ص186
17 - وما أحسن ما حكاه بعض أهل العلم عن الحكيم أفلاطون فإنه قال: الفضائل مُرة الأوائل حلوة العواقب، والرذائل حلوة الأوائل مُرة العواقب.
¥