تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و قد جاءت نصوص كثيرة في ذم من لم يعمل بعلمه، منها قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

قال القرطبي رحمه الله: قلت: فقد دل الحديث الصحيح و ألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف و بالمنكر و بوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه و إنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى و مستخف بأحكامه و هو ممن لا ينتفع بعلمه. إهـ

و لقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يستعيذ بالله من علم لا ينفع، و لو كان الفضل و الخير في حمل العلم دون الإنتفاع به لما شبه الله عز و جل حامله بالحمار الذي يحمل أسفارا.

و قد أحسن من قال:

لو كان في العلم دون التقى شرف ... لكان أشرف خلق الله إبليس

لقد قدمت بهذه المقدمة لتعلق ما سيأتي ذكره بها إن شاء الله، و هو:

أولا: مما ينبغي علمه – إخواني – أنه لما كان العلم هو الطريق الموصل إلى الجنة كان لا بد أن يكون محفوفا بالمكاره و العوائق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات) مسلم.

قال النووي رحمه الله في شرحه للحديث: قال العلماء: هذا من بديع الكلام و فصيحه و جوامعه التي أوتيها صلى الله عليه و سلم من التمثيل الحسن، و معناه: لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، و النار بالشهوات، و كذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره ... إهـ

قال إبن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين: (و لولا القواطع و الآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، و لو شاءَ الله لأزالها و ذهب بها، و لكن الله يفعل ما يريد). إهـ

فالعوائق و العقبات على طريق الطلب مما لا بد منه، ليعلم الله الصادق من الكاذب و ليميز بها الخبيث من الطيب، و بالامتحان يكرم الرجل أو يهان، و من ظن أنه سيبلغ المعالي بالمعاصي أو بالركون إلى الدعة أو بالتمني فقد غلط، قال تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذين} العنكبوت 1، 3

و قال سبحانه و تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين} آل عمران: 142.

قال الآلوسي رحمه الله: (و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) حال من ضمير (تدخلوا) مؤكدة للإنكار، فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول، و لهذا قيل:

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الفوائد: (و ذلك أن النفس لا تزكو و تصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كير الإمتحان) إهـ.

ثانيا: أن العلم الذي مدح الله و رسوله أهله هو العلم الباعث على العمل، كما سبق بيانه، و الحاملون لهذا العلم هم الراسخون فيه العاملون به، المجاهدون في الله حق جهاده، جاهدوا في تحصيل العلم، في العمل به و تبليغه، و صبروا على ذلك مقبلين غير مدبرين، فهداهم الله السبيل، قال تعالى {و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} هؤلاء هم الذين علم الله فيهم خيرا فنالو شرف حمل العلم و الإمامة كما قال تبارك و تعالى {و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون} و كما دل عليه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). أي: علم فيهم خيرا فأراد بهم خيرا.

و الحديث بمفهومه يدل على أن من لا يريد الله به خيرا لا يفقهه في الدين، ذلك لأنه ليس أهلا للخير فلم يستحقه، قال إبن القيم رحمه الله تعالى: (و ليس من مَنعَ فضلَهُ ظالماً، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه و لا يليق به).

و قد جاء ذلك مبينا في قوله تعالى: {و لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون} الأنفال: 22 - 23

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في المجموع: قوله: {و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} و هؤلاء قد دل الكلام على أن الله لم يعلم فيهم خيرا فلم يسمعهم، إذ " لو " يدل على عدم الشرط دائما، و إذا كان الله ما علم فيهم خيرا فلو أسمعهم لتولوا و هم معرضون.

و قال أيضا: (كل من علم الله فيه خيرا أسمعه هذا الإسماع فمن لم يسمعه إياه لم يكن قد علم فيه خيرا).

و قال في موضع آخر جامعا بين الآية و الحديث: فإن ذلك (أي الإسماع) هو الذي يعطيه الله لمن فيه خير و هذا نظير ما في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) و هذه الآية و الحديث يدلان على أن من لم يحصل له السماع الذي يفقه معه القول فإن الله لم يعلم فيه خيرا و لم يرد به خيرا و أن من علم الله فيه خيرا أو أراد به خيرا فلا بد أن يسمعه و يفقهه. إهـ

الخلاصة أن العائق الأصلي هو هذه النفس الأمارة بالسوء و كل ما سواها من العوائق فتابع، قال تعالى: {و ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك} النساء: 79، و قال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} آل عمران: 165، و قال: {و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير} الشورى: 30، و قال: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} الأنفال: 53

و في الحديث القدسي الذي يرويه الرسول ص عن ربه عز وجل: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». مسلم

فسبحان الله: نعيب زماننا و العيب فينا ... و ما لزماننا عيب سوانا

..........

سيأتي إن شاء الله ذكر قاصمة ظهر يغفل عنها كثير من الناس، أسأل الله تعالى يتجاوز عنا، و لا ينبؤك مثل خبير.

و السعيد من اتعظ بغيره.

يتبع ........

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير