تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[جلسة في قاعة الانتظار]

ـ[العاصمي الجزائري]ــــــــ[05 - 03 - 10, 08:20 م]ـ

جاء في مجلة الإصلاح السلفية الجزائرية العدد الثالث جمادى الأولى / جمادى الآخرة 1428 ه الموافق ل ماي / جوان 2007 م هذه الموازنة اللطيفة بين فضل السكوت وفضل الكلام وهي من توقيع الاستاذ الأديب محمد بوسلامة حفظه الله وقد أسماها ب (جلسة في قاعة الإنتظار) فلتتفضّلوها مشكورين:

[جلسة في قاعة الانتظار]

اشتدّت بي يوما وعكة فغدوت إلى الطّبيب ألتمس دواء، وكان قد حبسه عنّا حابس، فما بلغ حتى بلغت السآمة من القلوب مبلغا عميقا، فجلست في حجرة الانتظار أرقب نوبتي في أناس آخرين، فمكثنا ساعة من نهار كأنّ الطّير على رؤوسنا، وقد شدّت الأفواه بأقفال الصمت فلم تنبس الشفاه ببناتها، ولو عثرت نملة لسمع لعثارها صدى، ولم يكن من القوم إلاّ تقليب الأبصار في أركان الحجرة والتأمّل في زخرفها، وطال الصّمت فطال الزّمان، وقهر القلوب سلطان الملل فترجمت عنها الجوارح، فهذا يلوي عنقه ويخفّف بذلك ألم الفقار من طول القعود، وآخر قد جمع كفّيه ينفخ فيهما فتسمع له زفرة المصدور، وفتل آخر شاربه، وعبث آخر بلحيته، وربما شغل بعض القوم بأنفه وإنّ له في ذلك لشغلا، وكثر التثاؤب فكنت من المتثائبين وإنّ لي من عدواه عجبا، زمنه أنّني رأيت يوما هرّا يتثاءب فتثاءبت، كلّ ذلك والقوم لا ينطقون، ولقد كان من عادتي أن لا أحل موطننا إلاّ أجلت فيه الفكر واستنبأته عمّا انطوى عليه من العبر.

وكان من بركة هذه السنة عليّ ان وعظتني يوما نملة موعظة بليغة جرى لها القلم في مقالة مسجعة سمّيتها (موعظة نملة)، وكان ذلك زمان اشتغالي بالأسجاع، ولعلّك تقرؤها يوما، فقلت في نفسي: إن كان الصمت محمودا فلا ينبغي أن يحمد في مثل هذا الموطن، وإن كان الكلام مذموما فلا ينبغي أن يذمّ في مثل هذا الموطن، فاجتمع عندي من هذا وذاك أنّ الكلام والصمت إنّما يحمد كلّ منهما في موطنه، فالصمت في موضع الكلام مذموم كالكلام في موضع الصّمت، والموفّق من وضع كلاّ في موضعه، وكلّ ذلك إنّما يحكمه لبّ اللّبيب؛ فالصّمت والكلام إن لم يكن وراءهما لبّ كان الصّمت عيّا والكلام خطلا، وكلّ ما الّف في فضل الصّمت إنّما هو منزل على مواطن فضله؛ ولا أدري هل ألّفوا في فضل الكلام أم لا؟ فإن فعلوا كان ذلك من الإنصاف، ولو احتكم إليّ الصمت والكلام لحكمت للكلام في أكثر الخصومات؛ ذلك أنّني أرى أنّ الأصل في الصمت عدم النفع؛ لأنّه عدم وأن أصل الكلام المنفعة؛ فالعاقل لا يتكلّم إلاّ بما يصلحه وما خلق كلام الناس إلاّ لمصالحهم وحوائجهم ولا يخرج الشّيء عن أصله في أكثر أحواله.

ولم يكن الصّمت دليلا بنفسه، فما دلّ منه على شيء فإنّما ذلك بمعونة القرائن، وما أحذ الفقهاء الأحكام من سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ السكوت دليل بنفسه على الإباحة مثلا، وإنّما أخذوا ذلك من حيث كونه – عليه الصّلاة والسّلام – لا يسكت على الباطل، فكأنّه قال لهم: ما سكت عنه فهو حلال؛ فصار سكوته في قوّة الكلام، ولذلك اختلفوا في سكوت غيره؛ وما كان سكوت البكر دليلا على رضاها، وإنّما علم ذلك من شدّة حجلها من التصريح بالّرّضى بخلاف عدم الرّضى فإنّه لا يخجلها التّصريح به، ولذلك لما انتفت هذه العلّة عند الثيّب رجع السكوت إلى أصله؛ ولو اطّلع الفقهاء على أبكار زماننا لما اكتفوا منهنّ بالسكوت.

كلّ ذلك والقوم لا ينطقون وطال الصّمت فطال الزّمان وخلا المكان من معاني الأنس، فلا تسمع للقوم حوارا ولقد كانت المحاورة من أجلّ معاني الأنس الّتي يجدها الإنسان في الإنسان وإنّما يدحل عليك الوحشة الرّجل السّكيت الذي لا يكاد ينطق، وذلك لأنّ الحوار وقود الأنس وأن الصّمت مخمد لجذاه، ولهذا فإنّك لا تأنس برجل يحدّثك بغير لغتك؛ لأنّه في مقام السّاكت وإن كان هذا أقرب إلى التّأنيس من الّذي لا يحدّثك أصلا.

ولقد زعم أهل البصيرة أنّ لفظ (الإنسان) مأخوذ من الأنس، فإن صفا لهم قولهم صفا لنا – إن شاء الله – أن نقول: إنّ المحاورة هي من أعظم المعاني الّتي من أجلها سمي الإنسان إنسانا، وكلّ من لم يأنسك حديثه وسكت في مواطن المؤانسة والكلام قد انتقص من إنسانيته،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير