وقد يدلك على شر هذه الدار، أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختباراً، وبسطاً لغيرهم اعتباراً واغتراراً؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنع بمحمد المصطفى صلى الله عليه و سلم وموسى المختار عليه السلام بالكلام له وبمناجاته.
فأما محمد صلى الله عليه و سلم فشد الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى عليه السلام فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاما يأكله من جوعه.ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته.
وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة (يقصد عيسى عليه السلام) ففي أمره عجيبة؛ كان يقول أدمى الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام، أبيت وليس لي شيء، وليس أحد أغنى مني،.
ولو شئت ربعت بسليمان ابن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب، يأكل خبز الشعير في خاصته، ويطعم أهله الخشكار، والناس الدرمك. فإذا جنه الليل، لبس المسوح، وغل اليد إلى العنق، وبات باكيا حتى يصبح، يأكل الخشن من الطعام، ويلبس الشعر من الثياب،
كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز و جل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، ويزهدون فيما فيه زهد، ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعير، وألطفوا التفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها، ثم ألزموا أنفسهم الصبر أنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي الروح ويسكن القرم،
وجعلوها بمنزلة الجيفة التي قد اشتد نتن ريحها، فكل من مر بها أمسك على أنفه منها، فهم يصيبون منها لحال الضر، ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن، فغربت عنهم، وكانت هذه منزلتها من أنفسهم،
فهم يعجبون من الآكل منها شبعا، والمتلذذ بها أشرا، ويقولون في أنفسهم أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل، أما يجدون ريح النتن، وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة، غير أن أقواما استعجلوا الصبر فلا يجدون ريح النتن، والذي نشأ في ريح الإرهاب النتن، لا يجد نتنه، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده
وقد يكفي العاقل منها أنه من مات عنها وترك مالا كثيرا سره أنه كان فيها فقيراً، أو شريفاً أنه كان فيها وضيعاً، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلى، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقة، وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة، وأشدهم فيها فاقة، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها.
والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئاً وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب غير أنه إذا أخذ منها شيئا لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفي، حَذَرَ السؤال، وكراهية لشدة الحساب
وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام؛ يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا؟ ولا تدري لعلك تموت قبله. فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه، وقد كان عنك طويل الغيبة، وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغداً أيضا في يديك منه أمله،
فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك، هيهات كثر الشغل، وزاد الحزن، وعظم التعب، وأضاع العبد العمل بالأمل،
ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك. غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط ودعاك إلى المزيد في الطلب.
¥