وقال في موضع آخر: {هُدًى لِلنَّاسِ} فعمم. وفي هذا الموضع وغيره {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق. فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا. ولم يقبلوا هدى الله , فقامت عليهم به الحجة , ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر , لحصول الهداية , وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه , بامتثال أوامره , واجتناب النواهي , فاهتدوا به , وانتفعوا غاية الانتفاع. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية , والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان , وهداية التوفيق. فالمتقون حصلت لهم الهدايتان , وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق. وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها , ليست هداية حقيقية تامة.
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة , والأعمال الظاهرة , لتضمن التقوى لذلك فقال:
(3) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل , المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس , فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر.
إنما الشأن في الإيمان بالغيب , الذي لم نره ولم نشاهده , وإنما نؤمن به , لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر , لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به , أو أخبر به رسوله , سواء شاهده , أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله , أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية , لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم , ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب , [الإيمان بـ] بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة , وأحوال الآخرة , وحقائق أوصاف الله وكيفيتها , [وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها , ويتيقنونها , وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} لم يقل: يفعلون الصلاة , أو يأتون بالصلاة , لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة , إقامتها ظاهرا , بإتمام أركانها , وواجباتها , وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها , وهو حضور القلب فيها , وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته , إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة , والنفقة على الزوجات والأقارب , والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم , لكثرة أسبابه وتنوع أهله , ولأن النفقة من حيث هي , قربة إلى الله، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض , لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم , غير ضار لهم ولا مثقل , بل ينتفعون هم بإنفاقه , وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله: {رَزَقْنَاهُمْ} إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم , ليست حاصلة بقوتكم وملككم , وإنما هي رزق الله الذي خولكم , وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده , فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم , وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن , لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود , والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود , وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه , فلا إخلاص ولا إحسان.
¥