شعره دون الرجوع إلى المعاجم، فكأن لغته هي نفس لغتنا الفصحى التي
نعرفها اليوم دون أي اختلاف يذكر ..
هي تلك أستاذنا، وأوافقك في ملاحظتك على سلاسة شعره - مع جزالته - ويزيد إعجابنا بلغته إذا تأملنا أكثر ديوانه فوجدناه فخرا أو حماسة؛ وهي المواضع التي يُسجلَبُ فيها الغريب لإضفاء مزيد جزالة .. فلله هو كيف أوجد منهجه الفريد!
كما لحظت أنه يشد قارئه و يجعله يعيش التجربة الشعرية و كأنه صاحبها،
إضافة إلى حلاوة شعره بانسيابيته على اللسان كالدهان -على رأي الجاحظ- ..
أما هذه الانسيابية "الحلوة " فلا تسلني عنها منذ عجبت له في "تاريخيته ":
أبت عبراته إلا انسكابا ... ونار ضلوعه إلا التهابا
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا ... وودعت الغواية والشبابا
ومنذ حفظت باكرا بائيته:
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة ... فليس له إلا الفراق عتابُ
صبور ولو لم تبق مني بقية ... قؤول ولو أن السيوف جواب ُ
وألحظ أحوال الزمان بمقلة ... بها الصدق صدق .. والكذاب كذاب!
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه؟؟ ... ومن أين للحر الكريم صحابُ؟؟
شاعرنا شاعر متمرد قوي شجاع و ذو أنفة و عزة طافحة تظهر جلية
في شعره حتى أنه و هو في الأسر يواجه أعداءه بما يغيظهم دون وجل
أو تفكير في العواقب و لا غرو في ذلك، أليس هو القائل:
إِذا شِئتَُ جاهَرتُُ العَدُوََّّ وَلَم أَبِت ... أُقَلِّبُ فِكري في وُجوهِ المَكائِدِ
صَبورٌ وَلو لَم تَبقَ مِنّي بَقِيَّةٌ**قَؤولٌ وَلَو أَنَّ السُيوفَ جَوابُ
وأذكر هنا رده على الدمستق -وهو في الأسر- يوم قال له: 'إنما العرب كتاب لا يعرفون الحرب' ..
أَتَزعَمُ ياضَخمَ اللَغاديدِ أَنَّنا**وَنَحنُ أُسودُ الحَربِ لانَعرِفُ الحَربا
فَوَيلَكَ مَن لِلحَربِ إِن لَم نَكُن لَها**وَمَن ذا الَّذي يُمسي وَيُضحي لَها تِربا
أَتوعِدُنا بِالحَربِ حَتّى كَأَنَّنا**وَإِيّاكَ لَم يُعصَب بِها قَلبُنا عَصبا
لَقَد جَمَعَتنا الحَربُ مِن قَبلِ هَذِهِ**فَكُنّا بِها أُسْداً وكُنتَ بِها كَلبا
أما الراية التي رفعها أبو فراس
فإنها كانت أمرا طبيعيا بعدما طال مكوثه في الأسر و تأخر عنه الفداء ..
لا عجب في رفعه لراية الشكوى و التوجع في رومياته التي كانت من أرق
وأروع شعره -إن لم تكن من أرق و أروع الشعر على الإطلاق- فنجده يشكو
القيد قائلا -على لسان أمه-:
يامَن رَأى لي بِحِصنِ خِرشَنَةٍ**أُسدَ شَرىً في القُيودِ أَرجُلُها
يامَن رَأى لي القُيودَ موثَقَةٌ**عَلى حَبيبِ الفُؤادِ أَثقَلُها
ثم يعرج إلى عتاب سيف الدولة لتأخره عن فدائه و رد أمه خائبة
عندما لجأت إليه طالبة منه أن يفديه، دون أن ينسى
تذكيره بسبقه وفضله مع شكوى يتفطر لها القلب فيقول:
أَسلَمَنا قَومُنا إِلى نُوَبٍ**أَيسَرُها في القُلوبِ أَقتَلُها
وَاِستَبدَلوا بَعدَنا رِجالَ وَغىً**يَوَدُّ أَدنى عُلايَ أَمثَلُها
لاتَتَيَمَّم وَالماءُ تُدرِكُهُ**غَيرُكَ يَرضى الصُغرى وَيَقبَلُها
بِأَيِّ عُذرٍ رَدَدتَ والِهَةً**عَلَيكَ دونَ الوَرى مُعَوَّّلُها
إِن كُنتَ لَم تَبذِلِ الفِداءَ لَها**فَلَم أَزَل في رِضاكَ أَبذِلُها
ياواسِعَ الدارِ كَيفَ توسِعُها**وَنَحنُ في صَخرَةٍ نُزَلزِلُها
ياراكِبَ الخَيلِ لَو بَصُرتَ بِنا**نَحمِلُ أَقيادَنا وَنَنقُلُهااختيار رائع .. وحقا فالروميات من أعذب الشعر الذي لا يردده أسرى السجن وحسب، بل كل من تضيق به الدنيا فيشعر أنها سجن أوسع قليلا ..
تَبدو التِلاوَةُ مِن أَبياتِهِم أَبَداً**وَفي بُيوتِكُمُ الأَوتارُ وَالنَغَمُ
هذا والله مفتاح النصر، ولكن ليت قومي يعلمون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و من غرائب الصدف أن المحقق العلامة محمود شاكر ذكر
-في رأي يستحق الوقوف و التمعن حول نسب المتنبي- أن
أب المتنبي كان طالبيا مما حدا به إلى الاختفاء نظرا
لمطاردة أصحاب دعوة الطالبيين في ذلك الوقت والاضطهاد
الذي كانوا يعانون منه، وعليه فإن شاعرينا - المتنبي وأبا فراس- الذين تناولتهما بالدراسة يكادان ينتميان إلى مدرسة دينية -و بالتالي فكرية- واحدة ..
ـــــــــــــــــــــــــ
هما عندي من ذات العائلة " النفسية الأبية " سواء التقى نسبهما أم لا ..
يعنينا أن نقتسم هذا الإرث حلالا يستعذبه كل أبي فارس نبيل ..
شكرا لك على ما تفضلت به أيها الباز الأبي، وجزيت الحسنى وزيادة ..