حتى وصلنا إلى اتجاهات فكرية في مناهل الشعر والرمزية والغموض وغيرها.
أ) شعر التفعيلة:
إن شعر التفعيلة أو الشعر الحر (موزون ويأخذ بنظام وحدة التفعيلة، ويقوم على ثمانية بحور من بحور الخليل، وهي الرجز، والكامل، والمتقارب، والهزج، والخبب، والرمل، وكذلك السريع والوافر.
ومن أمثلة الشعر الحر قول السياب:
تثاءب الغيوم والمساء ما تزال
تسح ما تسح من دموعها الثقال
كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
بان أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له بعد غد تعود
لابد أن تعود
وإن تهامس الرفاق: أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسف من ترابها وتشرب المطر
فهذه الأبيات موزونة بوزن الرجز (مستفعلن).
وأيضا القافية فيها من بحر الرجز)
إن ما حققته الحداثة في الشعر، (يتمثل فيما يتعلق بتلك الحرية الايقاعية التي تكفل لنا، أي القصيدة، الخروج من أقمطة الخليل كما يسميها محمد الماغوط.
ومما لا شك فيه أن ما أنجز في هذا المجال، أي الوصول إلى مساحات من الحرية الموسيقية شيء لا يستهان به، لكنه يظل مع ذلك خروجا محدود أو محددا.
لقد خرجت القصيدة العربية من خناديق الخليل حادة صاخبة لتدخل نهرا من موسيقى أكثر سعة و غنى وتنوعا. واستطاع شعراء الحداثة المتميزون أن يحدثوا من خلال نماذجهم الشعرية، صدمة إيقاعية لا عهد للقصيدة بها ولا عهد للفكر النقدي بها أيضا.
لقد أخرج الواقع الموسيقي معظم البحور المركبة، أو البحور الممزوجة كما تسميها نازك الملائكة، من دائرة الفاعلية والتأثير بشكل يكون تاما، واقتصر التشكيل الموسيقي في معظم الكتابات الشعرية على البحور المفردة أو ما اصطلح عليه بالبحور الصافية.
نظريا، لم يبق إلا ثمانية بحور شعرية فقط يمكن أن تسهم في تشكيل إيقاع القصيدة العربية الحديثة، إما عمليا فإن نصف هذا العدد، أو أقل من ذلك هو ما يؤدي دورا موسيقيا واضحا في شعرنا الحديث.
إزاء هذا الواقع جرت محاولات عديدة للتغلب على هذه المعضلة الإيقاعية، فقد جرب عدد من الشعراء المتميزين التنويع في إيقاع القصيدة وتخفيف رتابتها الناتجة عن محدودية البحور المستعملة ومع جديتها إلى أنها ظلت محدودة وعاجزة عن الوصول لنتائج.
ربما كان السياب وأدونيس أسبق من سواهم في الوقوف عمليا على ضحالة النهر، أعني افتقار القصيدة الحديثة إلى الثراء الموسيقي والتنوع.
كانت قصيدة السياب: (ها هو) محاولة مبكرة للخروج من الزجاجة، يقول:
تنامين أنت الآن والليل مقمر
أغانيه أنسام وراعيه مزهر
وفي عالم الأحلام من كل دوحة
تلقاك معبر
وباب غفا بين الشجيرات أخضر
ومع ذلك يبقى السياب محدودا، والسبب في ذلك يكمن في طبيعة البحور المركبة عموما فالوحدة الموسيقية فيها لا تتكون، كما في البحور المفردة.
على الشاعر إذن، أن يستخدم الوحدة الموسيقية المركبة كاملة حتى تتنوع الموسيقى في القصيدة.)
إذن مع أن قصيدة التفعيلة أحدثت حرية إيقاعية، إلا أنها أيضا تمر بإشكالات في تنوع تلك الموسيقى.
كما تخرج لنا إشكالية أخرى في قصيدة التفعيلة، وهي الثراء في التقفيات الداخلية، وأيضا تنوع حروف القوافي في القصيدة، وهذه الإشكالية قد مرت بجدل واسع بين الشعراء.
وهذه الإشكالات أدت إلى ظهور نوع جديد من أنواع الحداثة الشعرية في القصيدة – إن صحت التسمية_ وهي قصيدة النثر.
ب) قصيدة النثر
ما إن استقرت قصيدة الشعر الجديد في إطارها التفعيلي، وما إن كسبت اعتراف النقاد ومحبي ومتذوقي الشعر، حتى خرجت علينا قصيدة النثر، بمفهومها الجديد عند أصحاب هذه المدرسة ومروجيها، مما أدى بالتالي إلى خلط كبير بينهما وبين قصيدة التفعيلة لدى مهاجمي الشعر الجديد خاصة.
(ويعود ظهورها إلى الأربعينيات حيث نشأت البواكير الأولى لها تمثلت في محاولات عفيف وألبير أديب، فأصدر الأول في الأربعينيات مجموعة من الدواوين تنتمي إلى الرومانسية المصرية التي كانت تعد مرض العصر في ذلك الوقت ثم أصدر الثاني في مطلع الخمسينيات ديوانه الشهير (لمن؟) عن دار المعارف بمصر.
وفي الستينيات حظيت تجربة قصيدة النثر بعدد من المبدعين الذين أخلصوا لهذا الفن وكتبوا جل كتاباتهم من خلال هذا الشكل ومنهم: أنسي الحاج، ويوسف خال، ومحمد الماغوط، وكانوا ينشرون كتاباتهم في مجلتي (شعر) و (حوار) اللبنانيتين.)
¥